الانتباه في التعليم.. أساليب لزيادة التركيز والفعالية

لفهم السلوك البشري فهمًا دقيقًا وشاملاً، يتطلب الأمر استيعاب العمليات العقلية التي من خلالها نكتسب المعلومات ونعمل على تفسيرها. والسؤال المحوري هنا هو: ما تلك العمليات التي تمكّننا من إدراك هذا العالم وفهمه؟ الجواب هو ليس عملية واحدة، بل هو مجموعة من العمليات التي تضطلع بمنح المعنى لهذا العالم من حولنا، والتي تُعرف في مجملها بـ”العمليات المعرفية”. فالعمليات المعرفية هي الأنشطة العقلية التي نستخدمها لاستقبال المعلومات من بيئتنا المحيطة وتحليلها وفهمها. و”الانتباه” هو إحدى العمليات العقلية الأساسية التي تحتل مكانة مركزية في فهم الإدراك والسلوك البشري.

ماهية الانتباه

تُعد كلمة “الانتباه” من المفردات المتداولة بكثرة في أحاديثنا اليومية، سواء في سياقات التعليم أو في الحياة العامة. على سبيل المثال، عندما يطلب المعلم من طلابه في الفصل الدراسي أن يركزوا انتباههم على ما يقوله، فهو في الواقع يدعوهم إلى توجيه وعيهم نحو محتوى معين دون غيره. والانتباه هو تركيز الوعي على موضوع محدد، ويمكن النظر إليه باعتباره حالة ذهنية أو استعدادًا داخليًّا يقوم به الفرد بإرادته، لتوجيه تفكيره نحو شيء معين.

قدَّم العديد من العلماء تعريفات متنوعة توضح أبعاد الانتباه المختلفة، ومن أبرز هذه التعريفات لعالم النفس الألماني “كولبي”: “الانتباه كحالة من الوعي”. فهو يرى أن الانتباه هو حالة عقلية تتسم بالوعي واليقظة، تُمكّن الفرد من التفاعل مع بيئته. ويرى “ستاوت”: “الانتباه هو الارتباط الذي يحدد الإدراك”. يصف “ستاوت” هنا الانتباه على أنه الرابط الأساسي الذي يُمكّن الإنسان من إدراك عناصر معينة من محيطه دون غيرها. والعالِم “روس” يُبرز الانتباه كعملية تُساعد على جعل الأشياء والأفكار واضحة ومحددة أمام الذهن، مما يُسهّل فهمها حيث يعرّف بأن “الانتباه، عملية الحصول على شيء أو فكرة واضحة أمام العقل”.

خصائص الانتباه

الانتباه هو عملية عقلية متعددة الأبعاد، تتميز بعدة خصائص تعكس طبيعتها الديناميكية والانتقائية. وفيما يلي أبرز هذه الخصائص:

أ- وضوح الإدراك: يتمثل الانتباه في تركيز الوعي على فكرة أو موضوع محدد، مما يتيح للعقل إدراكه بوضوح تام. فهو أداة تجعل الموضوع المدروس واضحًا ومحددًا أمام الذهن.

بـ- الانتقائية: نظرًا لتعدد المنبهات التي تؤثر على حواسنا في كل لحظة، يعمل الانتباه كعملية انتقائية تتيح لنا اختيار بعض المنبهات للتركيز عليها، بينما نتجاهل المنبهات الأخرى التي لا تلفت اهتمامنا.

جـ- التحول: الانتباه بطبيعته متغير ومتحرك، حيث لا يمكن تثبيته على موضوع واحد لفترة طويلة. في الواقع، تشير الدراسات إلى أن الإنسان لا يستطيع التركيز على موضوع واحد لأكثر من ثماني عشرة ثانية بشكل مستمر.

د- التعديلات الحركية: يتطلب الانتباه تعديلات حركية في الجسم، حيث تتكيف أعضاء الحس مع الموضوع الذي يجذب انتباهنا. على سبيل المثال، قد يتحرك الرأس أو العينان أو الأذنان باتجاه المنبه، لزيادة دقة الانتباه إليه.

هـ- الضيق: لأن الانتباه يتسم بالانتقائية، فإن نطاقه محدود؛ فلا يمكن للإنسان التركيز على العديد من الأشياء في وقت واحد، بل يجب أن يكون انتباهه محصورًا في عدد قليل من المحفزات.

و- التركيز على الجديد: يميل الانتباه بطبيعته إلى الأشياء الجديدة وغير المألوفة من قبل. فهو يُحفّز الإنسان على اختيار العناصر الجديدة من بين العديد من المؤثرات المحيطة به وتركيز انتباهه عليها.

أنواع الانتباه

صنّف العالم “روس” الانتباه إلى نوعين رئيسيين، هما: الانتباه الإرادي، والانتباه غير الإرادي. ويندرج تحت كل منهما تصنيفات فرعية تعكس أبعاده المختلفة. وفيما يلي شرح لذلك:

1- الانتباه الإرادي: يُعرف الانتباه الإرادي بأنه عملية تتطلب جهدًا واعيًا وإراديًّا من الفرد. وهو يتطلب دائمًا تركيزًا عقليًّا ومجهودًا ذهنيًّا كبيرًا، خاصة عند التعامل مع موضوعات معقدة. فعلى سبيل المثال، عندما يحاول الطالب فهم نص صعب مع استحضار الإرادة والتركيز، فإن هذا يُعد انتباهًا إراديًّا. وينقسم هذا النوع إلى قسمين:

– الانتباه الضمني: هذا النوع من الانتباه يتطلب جهدًا إراديًّا بسيطًا أو عاديًّا، يتمثل في المواقف التي لا يحتاج الفرد فيها إلى بذل الكثير من الجهد العقلي، بل يكون تركيزه طبيعيًّا إلى حد كبير، ومثاله: متابعة قراءة قصة ممتعة دون إجهاد ذهني كبير.

– الانتباه الصريح: في هذا النوع، يحتاج الفرد إلى بذل جهد عقلي متكرر وإرادي لتحقيق التركيز، كما يتطلب الانتباه الصريح توجيه إرادة قوية ومتكررة، خاصة عند مواجهة مهام تتطلب قدرًا عاليًا من التركيز. والمثال على ذلك: التركيز على دراسة موضوع علمي معقد أو حفظ نص طويل.

2- الانتباه غير الإرادي: يظهر الانتباه غير الإرادي منذ مراحل الطفولة المبكرة، لأنه لا يتطلب أي جهد إرادي أو واعٍ. ويميل هذا النوع إلى الظهور تلقائيًّا عندما تثير البيئة المحيطة اهتمام الفرد، وهو غالبًا ما يكون مدفوعًا بالفطرة والغرائز. وينقسم هذا النوع إلى قسمين:

أ- الانتباه القسري: يسمى بهذا الاسم لأنه يُفرض على الفرد نتيجة ظروف معينة خارجة عن إرادته. كما يرتبط بمواقف أو حوادث قوية، مثل الأحداث المؤلمة أو المواقف الصادمة التي يصعب نسيانها، ومثال ذلك: تذكر حادث مفاجئ أو موقف أثّر بشدة على الحالة النفسية.

ب- الانتباه التلقائي (العفوي): يحدث هذا النوع بشكل طبيعي نتيجة المشاعر أو الاهتمامات التي تكوّنت مسبقًا حول موضوع معين. كما لا يتطلب أي جهد إرادي، بل يكون مدفوعًا بعاطفة أو اهتمام فطري تجاه الشيء. على سبيل المثال: الانجذاب التلقائي إلى مشهد جميل أو التركيز على موضوع يشكل شغفًا للفرد.

عوامل الانتباه

تنقسم عوامل الانتباه إلى قسمين رئيسيين: عوامل موضوعية، وعوامل شخصية أو ذاتية. وفي هذا الجزء، سنتناول العوامل الموضوعية التي تتعلق بخصائص المنبهات وتأثيرها على أعضاء الحس.

أولاً: العوامل الموضوعية:

العوامل الموضوعية هي السمات أو الخصائص التي يتميز بها المنبه، مما يجعله قادرًا على جذب انتباه الفرد بسهولة. ومنها:

– الشدة: الأصوات العالية، الألوان الزاهية، أو الضوء الساطع، تجذب الانتباه أكثر من الأصوات المنخفضة أو الألوان الباهتة، مثلاً: الصور الكبيرة الملونة، تجذب انتباه الطلاب أكثر من الصور الصغيرة وغير الملونة.

– الحجم: الأشياء الكبيرة تجذب الانتباه أكثر من الأشياء الصغيرة. يستخدم المعلنون -مثلاً- لوحات إعلانية ضخمة لجذب العملاء المحتملين، والإعلانات التي تغطي صفحة كاملة في الجرائد تثير اهتمامنا أكثر.

– الجدة: كل ما هو جديد وغير مألوف يلفت الانتباه. مثلاً: معلم جديد في الفصل يثير اهتمام الطلاب أكثر من المعلم المألوف لهم.

– التغيير: التغيير في البيئة أو الأسلوب يُعتبر عاملاً قويًّا لجذب الانتباه. مثال: المعلم الذي يغيّر أساليبه في التدريس يحظى بتركيز طلابه أكثر من غيره.

– الحركة: الأشياء المتحركة تجذب الانتباه أكثر من الأشياء الثابتة. مثال: سيارة متحركة أو إعلان متحرك بأضواء كهربائية يلفت الانتباه أكثر من كونهما ثابتين.

– التكرار: تكرار المحفزات يُساعد في جذب الانتباه وترسيخها في الذهن. مثال: تكرار المعلم لنقطة معينة في الدرس يجعلها محور انتباه الطلاب.

– العزلة: عندما يتم عزل محفز معين عن باقي المحفزات المحيطة به، فإنه يجذب الانتباه بسهولة. ومثال ذلك: كتاب موضوع بمفرده على طاولة فارغة سيكون أكثر جذبًا للانتباه من كتاب محاط بالكثير من الأشياء الأخرى.

– التباين: التباين الواضح بين الأشياء يلفت النظر. والمثال على ذلك: رجل طويل بجانب رجل قصير أو شخص يرتدي لونًا مشرقًا في مكان يغلب عليه الألوان الداكنة يجذب الانتباه.

– المدة: كلما استمر وجود المنبه لفترة أطول، زادت احتمالية جذب الانتباه. مثال: أغنية تُشغل لثوانٍ قد لا تثير الانتباه، ولكن إذا استمرت لنصف ساعة، فإنها تترك أثرًا واضحًا.

– الصيغة المحددة: المنبهات الواضحة والدقيقة تجذب الانتباه أكثر من المنبهات الغامضة أو الضبابية. مثال: صورة واضحة المعالم تثير اهتمام الطلاب أكثر من صورة باهتة وغير محددة.

ثانيًا: العوامل الذاتية (الشخصية):

العوامل الذاتية هي التي ترتبط بخصائص الفرد الشخصية والنفسية، حيث تلعب دورًا كبيرًا في تحديد طبيعة انتباهه واتجاهه نحو المنبهات المختلفة. ومن هذه العوامل:

الفائدة: الإنسان يميل بطبيعته إلى الانتباه إلى الأشياء التي تثير اهتمامه أو تلبي احتياجاته الشخصية. مثال: الشخص المهتم بالرياضة يتابع أخبار المباريات باهتمام بالغ، في حين قد تمر هذه الأخبار دون أن يلاحظها من لا يهتم بالرياضة.

الغريزة: الغرائز البشرية تُوجه الانتباه تلقائيًّا نحو الأمور المرتبطة بالاحتياجات الفطرية. مثال: عندما يشعر الطفل بالعطش، يركز انتباهه بشكل طبيعي على البحث عن الماء. وينطبق هذا أيضًا على اكتساب المعرفة عندما يُثار فضول الإنسان إليها.

العواطف: تلعب العواطف دورًا كبيرًا في جذب الانتباه أو تشتيته. الإنسان يكون أكثر قدرة على التركيز والانتباه عندما يكون في حالة نفسية إيجابية، بينما يُعاني من صعوبة في الانتباه إذا كان في مزاج سيئ. مثال: في حالة عاطفية مكثفة، يمكن لشيء بسيط أن يصبح محور انتباه شديد، بينما قد يتم تجاهل نفس الشيء في الظروف العادية.

التدريب والعادة: الخبرات السابقة والتدريب يؤثران في نوعية الأمور التي تلفت الانتباه، حيث تُشكل العادة ميولاً ثابتة لدى الشخص. مثال: الجيولوجي يهتم بخصائص الصخور، وعالم الحيوان يركز على سلوك الحيوانات، وذلك بسبب التدريب والخبرات المتراكمة في مجال تخصصهما.

الرغبة: الرغبات تُوجه الانتباه نحو الأشياء التي يتطلع الفرد إلى تحقيقها أو الحصول عليها. مثال: الشخص الذي يرغب في شراء سيارة جديدة سيولي اهتمامًا خاصًّا للإعلانات والمعلومات المتعلقة بالسيارات.

الوراثة: الصفات الوراثية تلعب دورًا في تحديد مجالات الاهتمام لدى الأفراد، حيث تنتقل بعض الميول من الوالدين إلى الأبناء. مثال: إذا كان الوالدان مهتمين بالموسيقى والرقص، فمن المرجح أن يكون الطفل مهتمًّا بهما بشكل طبيعي.

الآثار التربوية للانتباه ودور المعلم في تحسينه

يعتبر الانتباه أحد العوامل الأساسية في العملية التعليمية التي تؤثر بشكل مباشر على قدرة الطالب على استيعاب المعلومات وفهمها. وفي هذا السياق، يستطيع المعلم اتخاذ عدة خطوات لزيادة فعالية تعلم الطلاب وتحقيق أقصى استفادة من قدرتهم على الانتباه. ومن إستراتيجيات المعلم لتعزيز الانتباه:

١- استخدام الوسائل البصرية المتنوعة: يمكن للمعلم تحفيز انتباه الطلاب باستخدام وسائل بصرية مبتكرة، مثل الصور، والرسوم التوضيحية، والعروض التقديمية التفاعلية.. هذه الوسائل تساعد في جذب انتباه الطلاب وتخفيف التشتيت، مما يعزز فهمهم وتركيزهم على الدرس.

٢- استخدام الطباشير الملون والشرح المشوق: من خلال استخدام الطباشير الملون أو الأدوات البصرية الجذابة، يمكن للمعلم إبراز النقاط الهامة في الدرس بطريقة تشد انتباه الطلاب. كما أن تقديم شرح شائق ومشوق يجعل الدرس أكثر جذبًا للطلاب ويحفزهم على الانتباه لفترة أطول.

٣- تكرار الدروس عند الحاجة: قد يواجه بعض الطلاب صعوبة في متابعة الدرس في المرة الأولى. لذا، من المفيد أن يقوم المعلم بتكرار الدروس أو تقديم شرح بديل لتوضيح النقاط الصعبة، مما يساعد الطلاب على فهم المادة بشكل أفضل وزيادة قدرتهم على التركيز.

٤- مراعاة الجو العام في الفصل: يمكن للمعلم التأثير على انتباه الطلاب من خلال خلق جو دراسي مناسب. يجب أن يكون الفصل هادئًا ومنظمًا، مع توفير إضاءة وتهوية جيدة، مما يساعد الطلاب على التركيز في الدرس دون التأثر بالعوامل المحيطة.

٥- تحفيز الغرائز الفطرية لدى الطلاب: يجب على المعلم أن يكون مدركًا لأهمية تحفيز الغرائز الفطرية لدى الطلاب. فعند تقديم الموضوعات أو الأنشطة التي تثير فضولهم واهتمامهم الطبيعي، يمكن للطلاب الانتباه والتركيز بشكل أفضل. على سبيل المثال، يمكن تحفيز الفضول من خلال طرح أسئلة أو عرض مواضيع جديدة ومثيرة للاهتمام.

في الختام، يُعتبر الانتباه أساسًا لا غنى عنه في عملية التعلم الفعّال، فهو الجسر الذي يربط بين الفكرة والعقل. ومن خلال تفعيل إستراتيجيات تهدف إلى تحفيز الانتباه، يمكن للمعلمين إيجاد بيئة تعليمية تشجع على التركيز والتفاعل المثمر. إن فهم كيفية إدارة الانتباه وتوجيهه بشكل صحيح يساعد الطلاب في تعزيز قدرتهم على استيعاب المعرفة بعمق، مما يساهم في تطوير مهاراتهم وتحقيق تفوقهم الأكاديمي. لذا، يصبح الانتباه ليس فقط مفتاحًا للنجاح، بل عنصرًا أساسيًّا في بناء عقول قادرة على الإبداع والتفكير النقدي.

(*) كاتب وباحث أكاديمي / الهند.