المنهيدن: الكبِد المنظف للمحيطات

في مطلع القرن التاسع عشر، زار “تيموثي دوايت” رئيس جامعة “ييل” جزيرة لونج آيلاند، ليتفاجأ بأن المزارعين يستخدمون سمكًا معينًا كسماد، ساهم في رفع خصوبة التربة ورفع قيمة الأراضي الزراعية بنحو ستة أضعاف. هذا السمك هو المِنْهيدن (Menhaden)؛ وهو نوعٌ قد يبدو للوهلة الأولى بلا نفع في عالم الأطعمة، لكنه تحوّل إلى أساسٍ لواحدة من أهم الحكايات البيئية والاقتصادية في تاريخ البحار.

تُعَدُّ سمكة المنهيدن من عائلة الرنجة، لكنها بخلاف الرنجة المعروفة، فهي تمتاز برائحة قوية تجعل من الصعب على البشر أن يأكلوها. ورأس سمكة المنهيدن تمثل نحو ثلث حجمها، وهي غنية بالزيت، مما يُكسب لحمها قوامًا دهنيًّا ورائحة نافذة. وعلى الرغم من نفور الإنسان من تناولها، فقد أصبحت هذه السمكة هبة للكثير من الكائنات البحرية؛ فهي مصدر جذب لا يقاوم للأسماك المفترسة والطيور على حد سواء. ويُعزى هذا لكون رائحة المنهيدن التي ننفر نحن منها، بمثابة رائحة لا تقاوم للأسماك والطيور الباحثة عن الطعام.

وفي الماضي استفاد السكان الأصليون في “نيو إنجلاند” من خصائص المنهيدن؛ حيث اكتشفوا أنها تنشط نمو المحاصيل الزراعية عند استخدامها كسماد، وأطلقوا عليها اسمًا يعني “الذي يسمّد”. وسرعان ما التقط المستعمرون هذا الابتكار، وحرفوا اسمها إلى “Menhaden”، ليصبح فيما بعد عنوانًا لقصة تاريخية من الابتكارات الزراعية والصناعية.

حكاية السمك الذي هزم الحيتان

بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت الحيتان تُصطاد على نطاق واسع لاستخراج زيوتها الثمينة، والتي استخدمت قديمًا للإضاءة والتشحيم والدهانات. ومع ذلك، استطاع زيت المنهيدن البسيط منافسة زيت الحيتان بل وتخطيه، لأنه أرخص تكلفة وأسهل في الاستخراج. في أسبوع واحد فقط، يمكن لسفينة واحدة متخصصة في صيد المنهيدن، جلب كمية من الزيت تساوي ما تجمعه سفن صيد الحيتان في رحلة قد تمتد لسنوات. وهنا بدأ عصر جديد من الاستكشاف الصناعي، وُصِف في عدد من تقارير مجلة “Scientific American” (1867) بـ”هوس زيت المنهيدن”.

لم يقتصر الأمر على انتزاع مكانة زيت الحيتان، بل تحولت المنهيدن أيضًا إلى سماد اقتصادي وزهيد. وكما أُشير في كثير من المصادر التاريخية، صارت هذه السمكة أساسًا لصناعات ضخمة في أمريكا. ورغم أنها حُرمت من مائدة العشاء، فقد صارت غذاءً لأنواع لا تحصى من الكائنات البحرية الأهم، وتحولت زيوتها إلى بديل للبترول في بعض الاستخدامات وقتها.

أسراب ضخمة ونظام دفاع جماعي

لعل من المدهش أن قدرات المنهيدن الفطرية في البقاء، تعتمد على العمل الجماعي. إذ إن لكل سمكة عينًا تبدو كأنها متعبة أو نعسانة، لكن الخط الجانبي الممتد على جسمها، يجعلها شديدة الحساسية لتغيرات الضغط في الماء. وعند اقتراب الخطر، تنقل السمكة إشارات التحذير إلى باقي السرب في لحظات، فينقسم السرب ويتحرك بتناسق ثلاثي الأبعاد، وكأنه كيان واحد يفرّ في اتجاه معاكس، مخلّفًا وراءه بعض الضحايا، لكنه حافظ على بقاء مجمله.

هذا الاستعراض المذهل، هو الذي جعله في الوقت نفسه مكمن ضعفها أمام البشر، فعندما اخترع الصيادون ما يسمى بـ”الشبكات الكيسية”، صار من السهل عليهم حصار أسراب ضخمة من المنهيدن في وقت قياسي. وكما قيل في تقارير مجلة العلوم البيئية البحرية “Marine Environmental Science Journal”، يكفي أن يجتمع الصيادون في قاربين اثنين يحوطان سربًا شاسعًا، ليلقوا شباكهم ويجمعوا ما قد يقترب من مئات الآلاف في ضربة واحدة.

الصيد الجائر في المحيط وخطر الانقراض

في القرن التاسع عشر، كانت صناعة صيد المنهيدن في أوج ازدهارها. عمالٌ بسطاء في مصانع مغلقة على سمك لا يتجاوز أكبره أربعين سنتيمترًا، لكن إنتاجه كان حاجة ملحة لآلاف الصناعات الأمريكية آنذاك. وبحسب ما ورد في تقارير زمنية متعددة، أدى الصيد الجائر إلى اختفاء قرابة تسعة أعشار بعض أنواع الأسماك الأخرى بحلول عام 1800م، إذ لم تكن هناك سياسات محددة تُنظّم الصيد أو تراعي تكاثر الأجيال اللاحقة.

ومع إطلالة القرن العشرين، انحسرت قيمة المنهيدن مؤقتًا بعدما اكتُشف النفط والغاز الطبيعي، وتطورت صناعة الأسمدة الكيميائية. ومع ذلك، تدخلت الحكومة الأمريكية لتمويل أبحاث تحافظ على هذه الصناعة، سعيًا لتوظيف المنهيدن في أعلاف الدواجن والمواشي. وبالفعل، نشرت المجلات الاقتصادية في عام 1924م، مثل مجلة “ماكلور” (McClure’s Magazine)، تقارير عن مدى نفع المنهيدن في إنتاج الدهانات وعلف الحيوانات، وحتى في مبردات المحركات.

ورغم ما تعرضت له المنهيدن من حملات صيد مكثفة، جرى إعادة اكتشاف قيمتها البيئية في القرن العشرين، إذ بات واضحًا أنها تؤدي دورًا فريدًا في تصفية المحيطات من العوالق النباتية، التي إن تُركت دون سيطرة قد تحجب ضوء الشمس وتستهلك الأكسجين المتاح للكائنات الأخرى. وجد الباحثون أن الخياشيم الكبيرة للمنهيدن تعمل مثل المصفاة، بقدرة تمرير تتراوح بين 4 إلى 8 جالونات في الدقيقة. وهذا يعني أنها تتغذى على كائنات مجهرية نباتية، مما يحمي بقية السلسلة الغذائية البحرية من الاختناق.

وفي مقال منشور في “The New York Times” عام 1993م بعنوان “المنهيدن غذاء للأسماك المفترسة”، وصف القبطان “جيه تيري” السمكة بأنها “الدجاجة التي تبيض ذهبًا”، حيث تسهم في تغذية الأسماك المفترسة الأكبر، وتدعم صناعة الصيد بأكملها.

شركات كبرى ومصالح اقتصادية

شهد النصف الثاني من القرن العشرين تدخل الشركات الكبرى، مثل “أوميجا بروتين”، التي تقدّم نفسها بمظهر صحي، وتسوّق زيوتها الغنية بأوميغا 3 للعناية بصحة القلب. غير أن أساليب صيد المنهيدن المكثفة في مناطق حساسة -مثل خليج تشيسابيك- خلّفت تأثيرات سلبية على التوازن البيئي، مما دفع بعض الجهات المنادية بالحفاظ على البيئة إلى التحذير من مخاطر هذا الصيد.

وحسب تقارير أصدرتها منظمات بيئية، منها الصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، والمجلس الدولي للحفاظ على الموارد البحرية (IMMC)، فالتأثيرات لا تقتصر على المنهيدن وحده، بل تمتد إلى سائر الكائنات البحرية التي تعتمد عليها في غذائها. كما أن غياب المنهيدن بأعداد كبيرة، يعني فقدان “الكبد” المنظِّف للمحيط، وترك المجال مفتوحًا أمام انتشار الطحالب الضارة التي تستنزف الأكسجين وتتسبب في كارثة بيئية.

الـمنهيدن وعلاقة الإنسان بالطبيعة

حين نقلب صفحات التاريخ، نجد أن المنهيدن تعرّض لمذابح حقيقية على مدى عقود طويلة، لكن الأكثر إثارة للدهشة أنها ما زالت موجودة بأعداد كبيرة، إذ يوازي تعدادها الكلي مجموع أنواع الأسماك الأخرى في المحيط الأطلسي مجتمعة، وفق بعض التقديرات العلمية. هذا الكم الهائل يذكّرنا بأن الله تعالى قد خلق لكل شيء قدرًا، وزوّد الطبيعة بآليات مرنة للتجدد والتوازن.

ومع ذلك، لا يعني هذا أنها بمنأى عن الخطر، فقد يخلُّ الإنسان بمعادلة الكون في لحظة طيش أو جشع. وكما حذّر العلماء في كتابات متفرقة مثل كتاب “الإنسان والطبيعة” لـ”جورج مارش”، فإن قدرة الإنسان الجبارة على الصيد قد تؤدي إلى انهيار مفاجئ في أعداد هذه السمكة؛ وبالتالي تهديد النظام البيئي بأكمله.

إن في قصة المنهيدن آيات تستحق التأمل؛ فرغم أنها غير مرغوبة للأكل بسبب رائحتها وطبيعة لحمها، صارت ركيزة أساسية في شبكة الغذاء البحرية. وقد تكون أهم سمكة في العالم لا يؤكل لحمها مباشرة، لكنها تُغذِّي آلاف الأنواع الأخرى التي نستهلكها بدورنا. هذه الوظيفة تشبه إلى حد كبير دور “الكبد” الذي ينقي السموم في جسم الإنسان كما وصفتها الباحثة البحرية “سارة جوتليب”.

هذا الدور لا يترك مجالاً للشك في عظمة الخالق الذي نظّم المخلوقات في حلقات متكاملة تدعم بعضها البعض. وتأتي هنا ضرورة السؤال: ماذا يحدث إن فرغت بحارنا من المنهيدن؟ الإجابة تستدعي التفكير في استدامة الحياة البحرية، فمن كان يتصور أن سمكة تفوح منها رائحة مزعجة ستكون هي أساس الحفاظ على سلاسل غذائية كاملة؟

مسؤوليتنا في إنقاذ الأرض

لقد شهدت العقود الأخيرة تصاعدًا في الوعي البيئي، حيث باتت الأصوات ترتفع لتحذّر من مخاطر الصيد الجائر والتلوث البحري. تضافرت الجهود الحكومية والأهلية لاعتماد سياسات تحدّ من استنزاف المنهيدن، كفرض حصص صيد ثابتة خلال أوقات معينة من السنة، وخاصة في مواسم التكاثر.

كما بدأ باحثون في تطوير بدائل نباتية لإنتاج زيوت غنية بالأوميغا 3، دون الحاجة للمزيد من الصيد الجائر للمنهيدن. وقد ظهرت بعض الأبحاث في المجلات العلمية، تشير إلى إمكانية استخراج أوميغا 3 من بعض الطحالب الدقيقة. وعلى المستوى التوعوي، تُشن حملات إعلامية تهدف إلى تعريف الناس بالدور الهام لهذه السمكة في تنقية المياه ودعم اقتصاديات الصيد.

إذا كان مشهد السمكة الصغيرة الهاربة من سربها للسعي خلف طُعم خادع يبدو في البداية قصة تراجيدية، فإن القصة الحقيقية تكمن في قدرة هذه السمكة على تغيير ملامح التاريخ الزراعي والصناعي والبيئي في آن واحد، بدءًا من استخدامها سمادًا في مزارع لونج آيلاند في مطلع القرن التاسع عشر، مرورًا بتحوّلها إلى بديل اقتصادي لزيت الحيتان، وانتهاء باكتشاف دورها المركزي في الحفاظ على المحيطات من اختناق العوالق النباتية.

كل ما تم ذكره يؤكد أن لكل كائن في هذا الكون دورًا قد لا يبدو واضحًا من الوهلة الأولى، لكنه لا غنى عنه.

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(1) المصدر الرئيس: سمكة مهمة لا يعلم عنها أحد: برنامج الدحيح.

(٢) Scientific American (1867م)، تقارير حول هوس زيت المنهيدن وتأثيره على الصناعات البحرية في القرن التاسع عشر.

(٣) Marine Environmental Science Journal، دراسات علمية عن أهمية المنهيدن ودورها في تنقية المياه.

(٤) الإنسان والطبيعة (1864م)، جورج مارش، كتاب كلاسيكي يناقش أثر الإنسان على البيئات الطبيعية.

(٥) الصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، تقارير توعوية حول دور المنهيدن في السلسلة الغذائية..

(٦) المجلس الدولي للحفاظ على الموارد البحرية (IMMC)، دراسات عن سياسات صيد الأسماك وتأثيراتها على النظام البيئي.

(٧) The New York Times (1993م)، مقال بعنوان “المنهيدن غذاء للأسماك المفترسة”.

(٨) McClure’s Magazine (1924م)، تقارير عن استخدام المنهيدن في الصناعات المختلفة.

(٩) سارة جوتليب، أبحاث في علم الأحياء البحرية تصف المنهيدن بـ”كبد المحيط”.