من منا لا يريد امتلاك هيكل عظمي قوي؟ فإن أغلب الناس يعانون ضعف هياكلهم العظمية، لذا كانت استفادة علماء الطب من التصوير الفضائي كجسم ذي الأبعاد الثلاثة، حيث أصبح الجراح الفضائي يرتدي خوذة فوق رأسه بها شاشة أمام عينيه تظهر له البعد الثالث مجسّمًا وبجودة متقنة، تمامًا كما يحدث مع الطيار أو رجل القضاء، بما يؤكد الصلة القوية بين فن الطيران وفن العلاج الطبي في هذا المجال، من خلال استخدام الروبوت بدلاً من الكاميرا في توجيه المنظار لتصوير الجسم.
إن دور طب الطيران في علاج الإنسان له أوجه متعددة، وفي ظل التهديدات الصحية التي واجهت العالم في الآونة الأخيرة وخطر انتشار الأمراض السارية عن طريق الجو، مثل متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد وإنفلونزا الطيور وغيرها من الأمراض المعدية، نجحت هيئة تنظيم الطيران المدني في مواجهة هذا التحدي الكبير من خلال وضع الأطر التنظيمية والرقابية التي انبثقت عن التشريعات الموضوعة، ومكنت قطاع الطيران المدني من تخطي هذه الأزمة الصحية ومنع انتشار الأمراض السارية عن طريق الجو.
ويُعتبر علم طب الطيران من الثوابت الراسخة في سلامة الطيران، كما أنه فرع من فروع الطب المهني الذي يهتم بصحة وسلامة الإنسان والطيارين وكافة العاملين بمهنة الطيران بالإضافة إلى المسافرين. ويوجد هنالك تكامل وترابط بين مفهومي الصحة والسلامة، حيث أظهرت الإحصائيات العالمية أن 50% من حالات الإصابة بالأمراض السارية متعلقة بالأخطاء البشرية، ويعود جزء منها إلى الوضع الصحي للقائمين بعمليات الطيران المدني من طيارين وفنيين، ولذلك فإن طب الطيران يولي اهتمامًا كبيرًا لدراسة أسباب هذه الإصابات ووضع الضوابط اللازمة لمنع حدوثها وتجنبها ما أمكن.
طب الطيران يُعنى بالتأثيرات على البشر نتيجة السرعة العالية والارتفاعات الشاهقة، وأيضًا تأثير عوامل تسارع أو تباطؤ المركبة أو الطائرة والضغط الجوي وانعدام الضغط. إن السرعة العالية لا تسبب أعراضًا ضارة، لكن الخطر يكمن في قوى التسارع أو التباطؤ، وهذا يعبر عنه بضعف قوة الجاذبية الأرضية عند مستوى سطح البحر أو الأرض.
بدلة الطيران التي يرتديها الطيار هي للحماية ضد الجاذبية. فهي تمدد الجسم والساقين وتمنع تجمع الدم بهما، وتسند الرأس جيدًا أثناء التباطؤ الشديد للسرعة لتحاشي تورم الجيوب الأنفية والصداع الشديد. فأثناء الطيران هناك حاجة مستمرة للأكسجين، ورغم أن الأكسجين المخزون بالجسم يوجد في مجرى الدم والعضلات ويمكنها أن تعمل مؤقتًا بدون أكسجين، لكن المواد السامة التي تنتجها تحد من نشاطها.
إن أول ما يتأثر بنقص الأكسجين هما العين والمخ. فالجو المحيط يحتوي 21% من الأكسجين في مستوى سطح البحر وتحت الضغط الجوي العادي. والارتفاع لحد 15 ألف قدم كافٍ لاستمرارية الحياة للإنسان. وفوق هذا الارتفاع لا بد للهواء الجوي أن يكون مضغوطًا صناعيًّا ليفي بحاجة الإنسان للتنفس.
أهمية تحضير المسافر
يشهد مجال السفر الفضائي البشري ثورة هائلة. وتسعى البعثات القادمة إلى تجاوز حدود المرض والسفر الفضائي، مع خطط للسفر لمسافات وفترات زمنية أطول من أي وقت مضى. وقد بدأت كل من الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) والعديد من شركات الفضاء التجارية بالفعل عملية التحضير لاستكشاف الفضاء لمسافات طويلة ولفترات زمنية طويلة، وتخطط حاليًا لاستكشاف الكواكب الداخلية للشمس (مثل المريخ) بحلول ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين.
ومع ظهور السياحة الفضائية، تجسد السفر الفضائي كمجال جديد ومثير للأعمال والضيافة والطب والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن الأدلة الحالية المتعلقة بصحة الإنسان في الفضاء محدودة للغاية، لا سيما فيما يتعلق بالسفر الفضائي قصير وطويل المدى.
وتلخص التطورات في سلسلة صحة الطيران، بما في ذلك الدراسات السابقة والبيانات غير المنشورة المتعلقة بكل جهاز عضوي على حدة، والفحص الطبي قبل السفر الفضائي. وقد صُنفت البيئة خارج الأرض إلى عمليات خارجية (مثل الإشعاع الفضائي وانعدام الجاذبية) وعمليات داخلية (مثل تغير الساعة البيولوجية الطبيعية للإنسان وصحته النفسية نتيجة للاحتجاز والعزلة وعدم الحركة وقلة التفاعل الاجتماعي) وتأثيراتها المختلفة على صحة الإنسان.
وهي تهدف إلى استكشاف التحديات الصحية المحتملة المرتبطة بالسفر إلى الفضاء وكيفية التغلب عليها لتمكين نماذج جديدة للصحة الفضائية، بالإضافة إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة لدفع أبحاث الصحة الفضائية المستقبلية.
في البيئة خارج الأرض، يُمكن للعديد من العمليات الخارجية والداخلية أن تؤثر على صحة الإنسان بطرقٍ متعددة. من أمثلة هذه العمليات الخارجية التعرض للإشعاع الفضائي وانعدام الجاذبية أثناء التحليق في المدار. يُشكل الإشعاع الفضائي خطرًا على صحة الإنسان من خلال عدد من الآليات المحتملة مثل: اختلالات في تخليق ميكروبيوم الأمعاء، وتسارع تصلب الشرايين، وإعادة تشكيل العظام، وتأثيرات تكوين الدم، وغيرها.
تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد
وإذا كان الطوف خارج نطاق الجاذبية الأرضية أمرًا ممتعًا، فقد حدد طب الطيران والفضاء وضع اشتراطات وقواعد مهمة، منها أنه يجب على رواد الفضاء أن يقوموا بتمارين بدنية لساعات طويلة في اليوم للحد من الضرر الناتج عن توقف نشاط الجهاز العضلي الهيكلي.
وبفضل تقنيات التصوير ثلاثية الأبعاد الجديدة، أظهرت دراسة أُجريت على 17 رائد فضاء من محطة الفضاء الدولية ونُشرت نتائجها في مجلة “ساينتيفيك ريبورتس”، أن التعافي يبقى منقوصًا حتى بعد عام من العودة.
أجرى العلماء عمليات تصوير هياكل عظمية لـ14 رجلاً وثلاث نساء قبل رحلة إلى الفضاء وعند العودة إلى الأرض، ثم بعد ستة أشهر و12 شهرًا من العودة. فوجدوا أن قصبة الساق (التي تدعم كل وزن الجسم تقريبًا) والكعبرة (الساعد) عند تقييم كثافتها ومقاومتها للكسر، مع حساب آثار التمارين البدنية في مناطق انعدام الوزن.
وعند العودة إلى الأرض، أظهرت النتائج بعد عام واحد من الرحلة، أن 16 رائد فضاء كانت لديهم مشكلات في قصبة الساق التي تفقد ما يصل إلى 2% من كثافة عظامها مقارنة بفترة ما قبل الرحلة. وكلما طالت مدة البقاء في المدار (6 إلى 7 أشهر)، زاد تلف نظام العظام.
وبعد 12 شهرًا، تبين أن تسعة من رواد الفضاء لم يتعافوا تمامًا. ويمكن مقارنة الأضرار عند هؤلاء بتلك الناجمة عن فقدان العظام على الأرض لعقد من الزمن أو أكثر.
ويواجه رواد الفضاء مخاطر صحية كثيرة خلال مهامهم الطويلة الأمد في الفضاء، فبالإضافة إلى ترقق العظام وخسارة نسبة من الكتلة العضلية والتعرض للإشعاع مع ضعف في البصر، فضلاً عن التأثيرات النفسية للعزلة.
وتعد مستويات الإشعاع داخل محطة الفضاء الدولية أعلى مما هي عليه على الأرض، لكن المجال المغناطيسي للأرض لا يزال يوفر حماية كبيرة بأهمية كبيرة، وتسعى ناسا إلى الحد من زيادة خطر الإصابة بالسرطان لدى رواد الفضاء إلى أقل من 3%. لكن السفر في الفضاء سيعرضهم لمزيد من الإشعاع وسيزداد الخطر.
ويُعد الرقم القياسي لأطول مدة لرحلة فضائية 437 يومًا، لكن الفترات الطويلة التي يقضيها الناس في الفضاء قد يكون لها أثر بالغ على أجسام رواد الفضاء إلى حدٍ مذهل؛ فعضلاتهم تتغير، كما يشهد نشاط الدماغ لديهم تغييرًا ملحوظًا، وحتى بكتيريا الأمعاء يطالها التغيير.
ضرورة تجنب الضغط الحركي
بدون سحب الجاذبية المستمر لأطرافنا، تبدأ كتلة العضلات والعظام في التناقص بسرعة في الفضاء. وأكثر العضلات تأثرًا هي تلك التي تساعدنا على الحفاظ على وضعية الجسم في الظهر والرقبة والساقين والعضلات رباعية الرؤوس فوسط انعدام الجاذبية، لا تحتاج هذه العضلات إلى بذل جهد كبير ومن ثم تضمر. وبعد أسبوعين فقط، قد تتقلص كتلة العضلات بنسبة تصل إلى 20%، وفي البعثات الفضائية الأطول التي تتراوح مدتها بين ثلاثة إلى ستة أشهر، قد تتراجع كتلة العضلات بحوالي 30%.
بنفس الطريقة، ولأن رواد الفضاء لا يعرضون هياكلهم العظمية لضغط حركي كبير كما هو الحال عند تعرضهم لجاذبية الأرض، فإن عظامهم تفقد المعادن وتفقد بعض قوتها أيضًا. يمكن أن يفقد رواد الفضاء ما بين 1 إلى 2% من كتلة العظام شهريًّا أثناء وجودهم في الفضاء، وما يصل إلى 10% على مدار ستة أشهر على الأرض، كما يفقد كبار السن من الرجال والنساء كتلة عظامهم بمعدل 0.5 إلى 1% سنويًّا. وقد يزيد هذا من خطر إصابتهم بالكسور ويطيل مدة التعافي منها. كما يمكن أن تستغرق كتلة العظام حوالي أربع سنوات حتى تعود إلى وضعها الطبيعي بعد عودتهم إلى الأرض.
ويؤدي ضعف الجاذبية الذي يضغط على الأجسام إلى زيادة طولهم قليلاً، حيث يزداد طول العمود الفقري قليلاً. وقد يؤدي هذا إلى مشكلات مثل آلام الظهر والانزلاق الغضروفي عند عودتهم للجاذبية. إن العمود الفقري عندما يزداد حجمًا قد يساعد على تجنب إصابة الرقبة الشائعة. وقد يستيقظ كثيرون في منتصف الليل وهم يشعرون بوخز أو خدر في أيديهم، وهي حالة شائعة تُعرف بـ”تنميل اليدين أثناء النوم”، وتنميل اليدين خلال النوم هو عرض يبدو بسيطًا، لكنه في بعض الحالات يعكس مشكلات صحية تتطلب الانتباه.
وفي معظم الحالات، يحدث التنميل نتيجة لانضغاط الأعصاب أو ضعف في تدفق الدم، لكن هناك عوامل أعمق قد تكون وراء هذه الظاهرة.
فقد يتسبب ضغط فقرات الرقبة أو الانزلاق الغضروفي البسيط في التأثير على الأعصاب التي تمتد إلى اليدين، ما يؤدي إلى الشعور بالخدر أو الوخز أثناء النوم أو عند الاستيقاظ.
وعند تنميل اليدين المتكرر أو المصاحب للألم، فإنه يمتد ليشمل الذراع كاملاً، وقد يكون ذلك مؤشرًا على وجود مشكلة عصبية أو صحية أعمق، تستدعي الفحص الطبي والتشخيص الدقيق.
إن جميع الإجهادات الطبيعية (الفيزيائية والكيميائية البيولوجية) مثل انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين، وتغيرات درجات الحرارة بمعدلات تتعارض مع وظائف أعضاء جسم الإنسان. ولكن الفضاء الخارجي يتميز بوجود بعض الإجهادات الإضافية التي تتعلق بالتحرر من حدود الجاذبية الأرضية، التي تؤدي إلى حالة انعدام الوزن، وما لها من تأثير في وظائف أعضاء جسم الإنسان في حالة التعرض لها لفترات طويلة، ومن هذه التأثيرات: اضطراب الدورة الدموية، والتوازن، وعمل المفاصل، وغيرها من التأثيرات.
مراجع:
- باتيل س. آثار انعدام الجاذبية على صحة عظام الجسم من مدار أرضي منخفض. مجلة العظام والأوعية الدموية الدولية. 2025.
- عبد المعطي ح.، كليمنت ج. كيو. تحديد جينات العظام الرئيسية المفترضة باستخدام بيانات على مستوى التكنولوجيا الحيوية. مدريد 2024.
- Davis, J. R. (2020). Fundamentals Of Aerospace Medicine: Translating Research Into Clinical Applications, 3rd Rev Ed.. United States: Lippincott Williams And Wilkins.
- Division of Aerospace Medicine | Boonshoft School of Medicine, Wright State University.
- King’s College London.
-
Collins Dictionary – Doctor’s Surgery