تحوي تعاليم ديننا الإسلامي منظومة شاملة للقيم الأخلاقية التي يمكنها أن تؤسس لواقع نعيش في ظلاله حياة تنعم بكل ما يوفر لها سبل الخير والسعادة، وهذه القيم تتحاشى كل ما يمكنه أن يُشكل خللاً في بنية المجتمع الأخلاقية وتسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها أن ينفذ ما يُعكر صفو الحياة واستقرارها والتعايش الراقي بين أبنائها. لقد جاءت الرسالة المحمدية لإصلاح العالم وإنارة الطريق لحياة قائمة على مبادئ تهدف إلى بناء أمة يتمتع أبناؤها بضمائر يقظة، ومعاملات راقية، وسلوكيات تُشكل نموذجًا يُحتذى بكل أبعاده، وتُلقي الضوء على ما يُمثله التمسك بأخلاقيات ديننا من تحضّر والتزام ورُقي لا نظير له في أي أمة من الأمم.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم: 4): «وقد أخذت قضية الأخلاق عامة، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم خاصة، محل الصدارة من مباحث الباحثين، وتقرير المرشدين، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم، وعامل الحفاظ على بقائها، كما قيل: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا».
وقد أجمل صلى الله عليه وسلم البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير مرشد ومعلم لمن حوله، يوجههم ويشاورهم ويتعاون معهم، ويغرس في نفوسهم أخلاق الإيمان بالقول والعمل، وكان قدوة لهم في كل ما يأتي ويترك. يقول الجلندري ملك عمان عن سبب إسلامه: «قد دلَّني على هذا النبي الأمي، أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شرٍّ إلا كان أول تارك له، وأنه يُغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يهجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبيّ».
وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصفَ مجلسه وصفًا يُرينا الهدي النبوي في بناء أبهى صور الأخلاق التي تترك طابعها في سلوك المحيطين تأثرًا بالمثل الأعلى في حياتهم، ويُرينا أيضًا أوضح صورة للرقي في الحوار والإنصات والتفاعل مع الآخرين وتفهمهم في إدارة نبوية تربوية عظيمة: «قال الحسين: سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب ولا مشاحّ (من الشح وهو البخل)، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُؤيس منه راجيه، ولا يُخيّب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز (يتجاوز الحق ويتعداه) فيقطعه بنهي أو قيام».
التربية والتقدم
إن الأخلاق سرّ تقدم الأمم وسبب لنهضتها وقوتها، فكيف يمكننا أن نتخيل أمة قوية تضيع بين أبنائها الأمانة، وينعدم الضمير، وينتشر الكذب، ويعم التدليس والغش…؟
ولا شك أن حالة الضعف والتبعية والتقليد التي تعاني منها الأمة في وقتها الحاضر تعود في جزء كبير منها إلى افتقادنا لذلك التأثير القوي لمنظومتنا الأخلاقية على حياتنا العملية وتعاملاتنا اليومية.
والأخلاق القويمة للمجتمعات تأتي من الحرص على التربية السليمة لأبنائها، تربية لا تعتمد فقط على تلقين النصوص التي تدعو للأخلاق، وإنما تعتمد أيضًا على تطبيقها والتدريب عليها عبر الأنشطة والبرامج والمواقف، واستخدام الحوار والمناقشة، ووجود القدوة التي يسيرون على نهجها في الأسرة والمدرسة.
يقول برنارد شو: «إذا لقّنت إنسانًا شيئًا فلن يتعلم أبدًا»، وهناك حكمة صينية تقول: «قل لي وسوف أنسى، أرني ولعلي أتذكر، أشركني وسوف أفهم».
ولننظر كيف استطاعت المدارس اليابانية، التي تعتمد على آليات مدروسة في غرس القيم التربوية مثل التعاون، والحرص على النظافة، واحترام الآخرين، وتقدير المعلم، والاهتمام بالعلم، والتواضع، والأمانة وغيرها؛ ليس بالتلقين فقط، وإنما بالمشاركة والممارسة والمساعدة والاستمرارية، حتى أصبحت تلك الأخلاقيات سمة في الطفل الياباني أثارت دهشة العامة والمسؤولين في العديد من الدول، ودَفعت بعض التربويين في أمريكا إلى القول بأن المدارس الأمريكية قد اندفعت «إلى عملية التطوير والإصلاح بعد أن أطلق الروس (سبوتنيك) أول قمر صناعي، وكان هذا جرسًا له رنين عالٍ أيقظ الأمريكيين… واليوم تواجه أمريكا (سبوتنيك) آخر له نفس الرنين العالي، وهو الطفل الياباني… هو الوسيلة، وهو الهدف، وهو معيار النجاح».
إنهم يدركون أن الأخلاقيات هي التي ترفع شأن الفرد وتجعله عضوًا مفيدًا لمجتمعه، كما يدركون أن نهضة الأمم القائمة على تربية أبنائها تربية واعية هي التي تجلب السعادة والفخر لتلك الأمم، وهم حريصون على أن يكونوا بتلك الصورة المتألقة؛ لذا يجتهدون في تربية الأجيال ليكونوا أمثلة يُحتذى في العلم والمعاملة والعمل.
إن أطفال اليابان «في السنوات الأولى من المدرسة يتعلمون كيف يستمعون إلى الآخرين، ويتفهمون آراء الآخرين، ويعترفون بصراحة إذا ما أخطؤوا، مُبينين مواطن الخطأ، كما يتعلمون كيفية التعامل بغير أنانية. أما في السنوات المتوسطة فيتدربون على حياة التواضع والاعتدال في وسطية مطلوبة منهم، أما في السنوات العليا في التعليم الابتدائي فيكون التفكير سابقًا للكلام والعمل، فيتصرفون بحكمة، ورائدهم في حياتهم النظام، ويتضمن تعلم الأطفال في التربية الأخلاقية تكوين مجموعة عادات واتجاهات سلوكية، فالجدية المخلصة في أداء العمل، ونكران الذات، والإصرارية الهادفة، يغلف كل هذا بالبشر والحساسية نحو مشاعر الآخرين».
إنها عوامل النجاح التي تتشكل في مرحلة التأسيس لتصبح طبيعة إنسانية تظل تُنير الطريق لصاحبها مدى الحياة، وتُصدر بسهولة ويُسر، ويصعب الحياد عنها، ولا شك أن الحرص على التربية القائمة على غرس القيم بصورة عملية مع وجود القدوة في داخل الأسر والمدارس يجعل الصفات النبيلة من سمات الأمة ومن أعظم مزاياها.
لقد بدأ الكثير من التربويين في العالم يدعون إلى الاهتمام بالتربية الأخلاقية وتدريسها للطلاب وارتباط نتائجها بالسلوك المشاهد لإدراك مدى انعكاسها الواقعي على حياة المتعلم، ويرون في الواقع الذي ندر فيه الوعي الأخلاقي ما يُنذر بنتائج وخيمة تهدد قوة أمتهم وتقدمها؛ وذلك لضعف سيطرة القيم التي تمثل صمام أمان يحمي المجتمع من تدمير نفسه ذاتيًّا.
يقول الخبير التربوي أنتوني هولتر: «إن الأرقام والدراسات المعنية بالبيئة المدرسية ومخرجات التعليم، والشباب والمراهقين، تُنذر بمستقبل حالك للملايين، فبين أزمات مرعبة من الانتحار، والمخدرات، والعنف، والإباحية، والاغتصاب، والجرائم عمومًا، وغيرها الكثير، تترنح أجيال بأكملها، لذا بلا جدال نحتاج لتربية أخلاقية متينة، بل ويجب أخذها على رأس أجندات التطوير».
ويقول التربوي الأمريكي ريشارد ويسبورد من جامعة هارفارد: «التحدي هو في جعل التربية الأخلاقية حاضرة بقوة في حياة الطلاب اليومية وسبيلاً للتميز، ويبدأ ذلك في المدرسة، يتوجب على الطالب أن يتعلم أسس القيم ومبادئ التعامل، مثل مساعدة الآخر، واللطف، واحترام الآخرين».
إن أهمية التربية في حياة المجتمعات تجعل من الحتمي أن تتكاتف الأسرة والمدرسة، وأن تُدرك وسائل الإعلام عِظم الأمانة، التي إن حفظتها كانت أداة تربوية مؤثرة في تثبيت دعائم الأمة، وحفظ كيانها، ورعاية أخلاقها، وإن فرطت فيها كانت أداة مدمرة لكل ما يمكنه أن يُنير الطريق لنهضة هذه الأمة، ويحفظ لها استقرارها.
المصادر:
– محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر1415 هـ – 1995 مـ، ج8ص248.
– ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت: دار الكتب العلمية 1415 هـ، ج1ص637.
– الترمذي: الشمائل المحمدية، بيروت: دار إحياء التراث العربي،ص199،200.
– ميري هوايت: التربية والتحدي، التجربة اليابانية، عرض وتعليق: سعد مرسى أحمد، كوثر حسين كوجك، القاهرة: عالم الكتب، ص14.
– لماذا يجب أن ندخل التربية الأخلاقية في مدارسنا؟: موقع24.
– سمر نمر أبو شهاب: مدخل إلى التربية الأخلاقية والتعليم وآثارهما المترتبة على إنماء المجتمع، دار المعتز2017م، ص16.