يعمد الناس إلى الانتقال إلى المدن لأسباب شتى، بحيث يشكل سكان المدن 59% من سكان العالم في عام 2024، وهو رقم يتوقع وصوله إلى 75% بنهاية القرن في ظل النمو السريع للمدن، حيث شهد القرن الحالي تحول 43 مدينة إلى مدن ضخمة (يفوق تعدادها العشر ملايين نسمة).
ويشير قدر كبير من البيانات في أرجاء العالم إلى ظاهرة “إرهاق البيئة الحضرية”، فالانتقال إلى المدينة لا يضمن زيادة في سعادة الإنسان. فعلى سبيل المثال، تشير مؤشرات السعادة الأخيرة في كندا إلى أن الناس أكثر سعادة في الأرياف والمدن الصغيرة، وليس المدن الكبيرة. الأمر الذي يتعلق بشكل رئيسي بزيادة شعور الانتماء إلى المجتمع، فيكتسب تحسين جودة حياة سكان المدينة أهمية متزايدة في عالمنا المدني أكثر من أي وقت مضى.

إن توافر إطار مفاهيمي واضح يحدد العلاقة بين جوانب المدينة وجودة الحياة جنبًا إلى جنب مع المصطلحات الشائعة أمر هام، ولو لم يكن سهلاً. وقد تمكنت بعض المنظمات من تطوير أطرها الخاصة، فقدم مجلس مدينة “ديالوغ” الكندية إطارًا لتعريف المساهمات البيئية القائمة وتقييم أثرها على جودة الحياة في المجتمع، ووضع تصوره بناءً على تعريف جودة الحياة في المجتمع التي تشمل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والسياسية التي يعتبرها الأفراد ومجتمعاتهم أساسية لازدهارهم وتحقيق إمكانياتهم.

وهنالك نهج آخر يضاف إلى ذلك يتمثل بتنظيم أنشطة متعلقة بجودة الحياة وتدخلاتها في المدينة بناء على أبعاد تصنيف المدن الذكية (التي تدخل التكنولوجيا في إدارتها).
فالمدن لطالما كانت ذكية: فكثيرًا ما سعى العديد من مديري المدن إلى تحقيق الكفاءة في مواردهم، إلا أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تقدم الآن فرصة أكبر بكثير من خلال توفير كم هائل من البيانات مع قوة معالجتها وإمكانيات التحليل الهائلة.

وتدور فكرة المدينة في جوهرها حول الناس، ولذا يجب على نتائج المبادرات الذكية أن تتوافق مع مبادئ جودة الحياة، كحال مدينة دبي التي تهدف رؤيتها إلى جعلها أسعد مدينة على وجه الأرض وأكثر ملاءمة وفائدة، بحيث تكون “ذكية اجتماعيًّا”.

وتلعب البيانات بمختلف صيغها ومواردها دورًا أساسيًّا في إدارة جودة الحياة في المدن. ولا تشكل بيانات المدن غاية بحد ذاتها بل وسيلة إلى الغاية، بحيث استخدمت بالعديد من الوسائل للمساعدة على تحسين الحياة المدنية. وتساعد العديد من منصات بيانات المدن اليوم في إيجاد القيمة من تحليلها، بحيث عمدت بعض المدن إلى إنشاء لوحات بيانات متاحة للعوام تُستخدم في رصد مؤشرات الأداء الرئيسية للمدينة، مثل بيانات مدينة لندن لمواجهة تحديات متنوعة كالتوظيف وتخطيط المواصلات والعزلة الاجتماعية. في حين تستخدم مدينة دبي مسابقة هاكاثون (Hackathon) لزيادة مؤشرات السعادة فيها، حيث إنه حدث دوري يجتمع فيه مبرمجو الكمبيوتر وغيرهم لتطوير البرمجيات.

وما زالت تقتصر مهمة مديري المدن في العالم الثالث على توفير البنية الأساسية والمأوى والخدمات لسكان المدينة؛ سواء صنعوا هذا أم عجزوا عنه؛ فإن المسألة منوطة باللوائح والقوانين والبيروقراطية في اشتراطات البناء، واتخاذ الموظف للقرار العمراني حسب معايير غير علمية أو إنسانية.

ولكن مهمة مديري المدن في الدول المتقدمة التي تعيش مرحلة الرفاه -بعد أن عملت على توفير الضرورات والحاجيات والتحسينيات للسكان- تقوم على تحقيق القدر الأكبر من السعادة والرضا للسكان.
ومن خلال قراءة التقرير العالمي لسياسات السعادة وجودة الحياة عام 2023 نجد توسعًا في تصميم المدن السعيدة في العالم، حيث يُنظر إلى نسيج المدينة المادي والمجتمعي في تحقيق السعادة، إذ تتمثل الضوابط المادية للمدينة في الجوانب المرئية والملموسة كالشوارع والساحات والمباني ومسارات الدراجات والحدائق العامة، في حين تبقى الجوانب المعنوية منها أكثر رمزية وارتباطًا بالعلاقات مثل ثقافة المدينة والشراكات المجتمعية والخدمات والشعور بالانتماء للمكان؛ إضافة إلى العوامل التالية:

1- تخطيط المدن وتصميمها، مع المساحات والأماكن المرتبطة معها.

2- الطبيعة: التفاعل مع الطبيعة بما في ذلك المساحات الخضراء/الزرقاء التي تنعكس إيجابًا على جودة الحياة.

3- التنقل: حيث أن لطرق حركة الناس في المدينة دورها الهام في تعزيز قيمة المدينة.

4- الاستدامة والشراكة: بما يؤدي إلى التغيير المستدام وتحسين جودة الحياة.

5- الثقافة: إضفاء طابع قيّم من التميز على المدينة نفسها وإعطاؤها مدلولاتها الخاصة بها التي تميزها عن غيرها من المدن.

6- جودة الخدمة: تسهيل وتيسير تقديم الخدمات التي تتمحور حول السكان.

وفيما يلي ثلاثة أمثلة رئيسية توضح الجوانب المادية لتصميم المدينة سعيًا لتعزيز جودة الحياة:

– يتعلق أولها بالسمات المادية للأماكن العامة التي وُجد لها أثر إيجابي على جودة حياة الناس الذين يمرون فيها، وهو المتمثل بمتنزه صغير في مدينة مانشستر (في المملكة المتحدة)، يظهر أثر وضع المقاعد المناسبة وبعض العناصر التي تثير اهتمام الناس مثل اللوحات الجدارية ومعرض صغير في الهواء الطلق، فضلاً عن خدمة الواي فاي، في مساعدة الناس على التفاعل مع بعضهم البعض وزيادة نشاطهم وتفاعلهم مع البيئة المحيطة بهم.

– كما يُظهر المثال الآخر نجاح إحدى البلدات الصغيرة في مدينة فلوريدا في إضفاء شعور قوي بالحياة المجتمعية بضمانها توفير وتنفيذ مجموعة بسيطة من معايير التصميم في المدينة والمنازل فيها؛ إذ ركزت عمدًا على جعل المدينة مضيافة للناس، وغير صالحة للسيارات، مع توفير الكثير من الأماكن المصممة لإطالة المقام فيها، فضلًا عن ضمانها تصميم المنازل والشوارع لتعزيز التعامل بين الجيران والمارة ما شجع بدوره على التفاعل وإيجاد الحس المجتمعي، إضافة إلى توفير مساحات خضراء وزيادة عدد الأماكن التي يمكن لهم التوجه لزيارتها.

– ونظرًا للدور الحاسم للتنقل في المدينة، استطاعت بعض المدن مثل مدينة إشبيلية الإسبانية تلبية متطلبات التنقل وزيادة الفوائد الصحية والبيئية وتغيير القواعد الاجتماعية فيها؛ إذ استطاعت المدينة التي لم يكن للدراجات فيها وجود يُذكر أن ترفع معدل استخدامها إلى 9% من إجمالي وسائل التنقل الميكانيكية فيها والوصول إلى مركز متقدم في المؤشر العالمي لركوب الدراجات في المدن.

ومن حيث الجانب المعنوي للمدن، تظهر أهمية الثقافة والفنون في تحقيق جودة الحياة، الأمر الذي تجسده الطريقة التي استصلحت بها مدينة فانكوفر الكندية إحدى المناطق الصناعية المهجورة فيها وحولتها إلى مركز ثقافي إقليمي.

تُعتبر المجموعة الثانية عوامل مساعدة فاعلة قريبة من الأشخاص أو متعلقة بهم أنفسهم نظرًا لحاجتها لتفاعل الناس الحيوي معها وتحملهم للمسؤوليات الشخصية لتحقيق المنافع، مثل النشاط الاجتماعي، والصحة، والحياة المتوازنة.

على سبيل المثال، العناصر التالية:

1- الثقة: جانب رئيسي من جوانب جودة الحياة، يمكن اكتسابه من خلال المشاركة الفاعلة والشفافية.

2- الأمن والأمان: حاجة أساسية تشكّل جزءًا رئيسيًّا من جودة الحياة.

3- التكلفة المعيشية: يشكّل ارتفاع تكاليف السكن عاملًا من العوامل التي تقلل من مستوى السعادة.

4- الشمولية: للشمولية الاجتماعية والاقتصادية قيمتها الاقتصادية والأخلاقية الإيجابية.

5- الصحة والحياة المتوازنة: نظرة شاملة لحياة المدينة والأنشطة التي تعزز التوازن والصحة الجسدية والنفسية.

6- النشاط الاجتماعي: يحتاج الناس لبعضهم البعض، كما يحتاجون لوسائل تعزز وتُحسن علاقاتهم مع الآخرين.

7- الاقتصاد والمهارات: يعدّ توفر الفرص الاقتصادية بما فيها التعليم والتعلم المستمر من بين الأسباب الرئيسية لانتقال الناس إلى المدينة.

8- الغاية والانتماء: يحتاج الناس للشعور بوجود مغزى من حياتهم، بما في ذلك شعورهم بالهدف والانتماء.

نُوقشت العديد من الحالات لتبيان العوامل المساعدة المبينة أعلاه، كان من بينها مثال عن الطريقة التي تعمل فيها مدينة ملبورن الأسترالية على تعزيز الشعور بالثقة من خلال إقامة مهرجان سنوي على مدى أسبوع كامل يتضمن العديد من الأنشطة والبرامج الثقافية، ويشكّل – على الرغم من وجود الكثير من الأنشطة الترفيهية – طريقة لإشراك السكان في اختيار مستقبل مدينتهم.

وعلى مديري المدن العمل على جعل مدنهم ميسورة التكلفة للفئات المتنوعة من المجتمع، كحال مدينة مونتريال الكندية الرائدة التي تتيح للمشترين من ذوي الدخل المنخفض فرصة العيش في المدينة من خلال قدرتهم على شراء المنازل البسيطة المصممة للتوسيع والتطوير لاحقًا.

تُعد الصحة النفسية أساسًا من أسس تحقيق سعادة السكان، ومثال ذلك أن الشركات النيوزيلندية حافظت على مصالحها التجارية ومنحت موظفيها الفرصة لتحقيق القدر الأكبر من الحياة المتوازنة بجعل أيام العمل أربعة في الأسبوع والدفع لهم لقاء خمسة، بما يتيح لهم قضاء المزيد من الوقت مع أسرهم.

وقد قدّم التقرير العالمي لسياسات السعادة وجودة الحياة 2019 (برنامج المدن السعيدة) بالاعتماد على نهج قائم على البيانات، وصولاً إلى مدينة “ذكية اجتماعيًّا”، وتحسين المحاور الواردة في القائمة المرجعية التالية:

أ- تصميم المدن السعيدة

1- التصميم الحضري وتوطين المكان: ضمان تعزيز المبادئ التوجيهية لتخطيط المدن والتصميم الحضري الجيد والتشجيع عليها، من مثل التنمية متعددة الاستخدامات المتمحورة حول وسائل النقل، واتخاذ الخطوات لزيادة الحس المجتمعي واتباع المبادئ التوجيهية لتحسين تصميم المرافق في الأماكن العامة.

2- الطبيعة: التفاعل مع الطبيعة بما في ذلك المساحات الخضراء/الزرقاء التي تنعكس إيجابًا على جودة الحياة.

3- التنقل: لطرق حركة الناس في المدينة دورها الإلهام في تعزيز قيمة المدينة.

4- الاستدامة والشراكة: سعيًا لتحقيق التحسينات المستدامة وطويلة الأمد في مستويات السعادة في المدينة، لا بد على مديريها من تجربة الشراكة مع المنظمات المهتمة التي يمكن لها الاستفادة من هذه الفرص، من مثل القطاع الخاص والمجموعات المجتمعية.

5- الثقافة: يجب على مديري المدينة الترويج الفاعل للأنشطة الثقافية بشكل مباشر -من خلال تنظيم الفعاليات على سبيل المثال- وغير مباشر بمساعدة المنظمات على تطوير المنظومات التخصصية.

6- جودة الخدمة: يجب على مديري المدينة ضمان جودة الخدمات الرقمية وغيرها على مستوى المدينة، بحيث تتمحور حول المستخدم وتهدف لتحقيق أقصى معايير الاستخدامية والوصول.

ب- العوامل المساعدة على تصميم المدن السعيدة

1- الثقة: تحسين الثقة المؤسساتية بمنظمات المدينة من خلال تعزيز المشاركة والشفافية.

2- الأمن والأمان: تحسين التصور والشعور الفعلي بالأمن والأمان بزيادة التركيز على مبادرات الأمان وزيادة الأماكن المفتوحة جيدة الإضاءة.

3- التكلفة المعيشية: يشكّل ارتفاع تكاليف السكن عاملاً من العوامل التي تقلل من مستوى السعادة.

4- الشمولية: ضمان دمج جميع الأشخاص في المدينة وقدرتهم على المشاركة في المجتمع والمنظومة الاقتصادية، بضمان تكافؤ الفرص وقدرة الجميع على الوصول إليها.

5- الصحة والحياة المتوازنة: نظرة شاملة لحياة المدينة والأنشطة التي تعزز التوازن والصحة الجسدية والنفسية.

6- النشاط الاجتماعي: دعم تواصل الأشخاص وعلاقاتهم ببعضهم البعض على جميع الأصعدة، كالأسرة والمجتمع، بتوفير الفرص لهم للتلاقي وتشارك الاهتمامات ومكافحة الوحدة سويًّا.

7- الاقتصاد والمهارات: يعدّ توفر الفرص الاقتصادية بما فيها التعليم والتعلم المستمر من بين الأسباب الرئيسية لانتقال الناس إلى المدينة.

8- الغاية والانتماء: تعزيز القيم والتجارب والمعاني المشتركة على مستوى المجتمع والمدينة باستخدام الفعاليات الثقافية، وضمان دمج السكان والمهاجرين الجدد وانخراطهم في المجتمع.

المصادر والمراجع:

المجلس العالمي للسعادة وجودة الحياة، التقرير العالمي لسياسات السعادة وجودة الحياة، تاريخ الاطلاع: 1 إبريل 2025 http://www.happinesscouncil.org

عبد العظيم أحمد عبد العظيم، الأماكن المقدسة وأثرها في سعادة البشر، بحث مقدم إلى مؤتمر البيئة من أجل السعادة، المجلس الأعلى للثقافة – مصر، 11 يونيو 2023.