يعيش النمل ضمن مستعمرات يقوم ببنائها، وقد يتجاور عدد كبير من المستعمرات مكوِّنًا واديًا للنمل كما سمّاه القرآن الكريم. إن حجم المستعمرات العملاقة (Super Colonies) التي تم قياسها في العديد من الدراسات العلمية، تغطي الآلاف من الكيلومترات المربعة في كاليفورنيا وأوروبا ونيوزيلاند وأستراليا. كما أن بعض المستعمرات الكبرى في الجنوب الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، تغطي أقل من 2500 متر مربع، وهي تضاهي حجم المستعمرات الموجودة بالأرجنتين. وقد أوضحت دراسة حديثة أن كثافة النمل يكون من 25 إلى 30 ألف نملة لكل متر مربع، وفي دراسة حديثة أخرى بالأرجنتين، تم دراسة مستعمرة تصل مساحتها إلى 650 مترًا مربعًا، ويسكنها من 1 إلى 5 مليون نملة، وتلك المستعمرة تحتوي على العديد من أعشاش (قرى) النمل المتجاورة، والتي تشكل كتلة (Cluster) متقاربة من الأعشاش.
وقد اقترحت تلك الدراسة أن يتم تعريف مستعمرة النمل على أنها مجموعة من الأعشاش (القرى)، والتي ينتقل النمل فيما بينها ويتشارك الطعام، وأن الترابط بين أعشاش النمل محدد مكانيًّا، حيث لا تتحرك العاملات عبر الممرات أو تتشارك الطعام بين الأعشاش على مسافة أكثر من خمسين مترًا من محطة القياس المحددة بالدراسة.
قرية النمل المنتظمة
اتضح من بعض الدراسات الحديثة أن كل مستعمرة من مستعمرات النمل تتكون من العديد من القرى (الأعشاش). هذه القرى مبنية تحت سطح الأرض، وفي بعض أنواع النمل (قاطعات الأشجار) يعلوها تل دائري صغير بارتفاع حوالي متر واحد في المتوسط. وقد أوضحت دراسات متعددة أنه يمكن وصول عدد المساكن في قرية من قرى النمل إلى الآلاف. هذا وقد قام العالِم البرازيلي “لويس كارلوس فورتي” بدراسة ثلاثة أنواع من الأعشاش والتي كانت أعداد المساكن فيها 1149 و1567 و7864 مسكنًا بالترتيب، فوجد أن المساكن والغرف في هذه القرى تختلف في شكلها ووظيفتها وعمقها تحت الأرض.
كما أوضحت دراسة حديثة أخرى حول أعشاش (قرى) النمل، أن أبعاد القرية المتوسطة الحجم لنوع النمل قاطع الأشجار (Atta Texana)، هي 4.5 مترًا عرضًا، و6 أمتار طولاً (أي بمساحة تعادل حوالي 25 مترًا مربعًا)، كما أكدت الدراسة على التقارب والتركز الكبير لأعداد المساكن (الغرف) بجانب بعضها البعض، فمن بين 169 غرفة بالقرية (العش)، وجد حوالي 161 غرفة ترتكز في الأمتار الثلاثة العلوية تحت سطح الأرض مباشرة.
وقد أوضحت دراسة أخرى حديثة أجريت بولاية فلوريدا بأمريكا على نوع (Camponotus Socius)، تركز وتقارب المساكن داخل العش بالقرب من المنطقة العلوية تحت سطح الأرض مباشرة، وهو ما يتأكد أيضًا عند دراسة العديد من قرى (أعشاش) النمل لأنواع مختلفة.
مساكن النمل المتينة
أوضحت الدراسات المتعددة الحديثة التي أجريت حول أعشاش وقرى النمل، أن هذه الأعشاش تتكون من جزأين أساسيين، الأول هو عدد من الأنفاق الأفقية والرأسية، والثاني هو مجموعة من الغرف (المساكن) الأفقية الوضع. كما أوضحت الدراسة أن عدد العاملات في العش يتناسب مع حجم العش ومساحة الغرف المنشأة، فعلى سبيل المثال، فإن مساحة الغرف بالنسبة لعش النمل من نوع (Camponotus Socius) يتراوح من 26 إلى 467 سم مربعًا، وكل زيادة بالنسبة لعدد عاملة واحدة يقابلها زيادة في مساحة الغرفة تساوي 0.70 سم مربعًا.
وقد أوضحت الدراسة أيضًا، أن شكل الغرف يختلف حسب حجمها وموضعها في أي مستوى من العمق، إذ إن الغرف القريبة من السطح ضيقة وأكثر طولاً، أما الغرف الأكثر عمقًا فتكون أكثر سمكًا واستدارة في شكلها الخارجي، أما ارتفاع الغرف فلا يختلف باختلاف المساحة، وهو يتراوح بين 1 سم و1.50 سم، والمسافة بين الغرف تتراوح من 2 سم إلى 14 سم، وتزداد قليلاً مع العمق.
أما التصميم المعماري لعش النمل من نوع (Pognomyrmex Badius) تتميز فيه الأنفاق (الممرات أو الشوارع) بأنها بيضاوية المقطع وبقطر يتراوح من 4 سم إلى 6 سم، ويميل بزاوية مقدارها 15 إلى 20 درجة بالقرب من السطح، ويزداد الميل إلى 70 درجة عند عمق 50 سم تحت سطح الأرض، ولا يزيد عدد الأنفاق عن أربعة في المستعمرات الكبيرة.
كما أوضحت دراسة على مستعمرة متوسطة الحجم للنمل من نوع (Atta Texana) بشمال ولاية لويزيانا الأمريكية، احتواءها على 169 غرفة (مسكن)، منها 97 حديقة لاستزراع الفطر الذي يعتبر الغذاء الأساسىي لتلك النملة قاطعة الأشجار، و27 غرفة للعاملات (Dormancy)، و45 غرفة للفضلات والقمامة، كما وجدت غرفة كبيرة نسبيًّا مقياسها مترًا واحدًا عرضًا ومثلها طولاً في أخفض نقطة من القرية (العش) عند 4 أمتار، تستخدم كمسكن شتوي لجميع أفراد النمل والفطر خلال فترة البَرْد.
فالنظام الحراري للمنطقة يجعل عاملات النمل تتجه إلى المسكن الشتوي في نهاية الخريف -مع بداية الفترة الباردة- لبناء حدائق جديدة من الفطر، كما تتجه نحو الغرف العلوية مع بداية الربيع لإنشاء الحدائق أيضًا لاستزراع الفطر.
أما عش النمل من نوع (Atta Leavigata)، فيتكون من تل ظاهر فوق سطح الأرض من التربة غير المتماسكة، به العديد من الفتحات والمداخل، وجزء غير ظاهر تحت سطح الأرض يحتوي على مساكن مختلفة الأحجام والأشكال ترتبط مع بعضها بشبكة من الأنفاق.
وقد وجد أن المساكن المخصصة كحدائق لاستزراع الفطريات بيضاوية الشكل، بينما غرف القمامة والفضلات على شكل مخروطي، ويمكن أن يكون شكل الغرف كرويًّا أيضًا.
وفي بعض الأعشاش يسيطر الشكل الكروي على الغرف مع وجود حوائط ملساء من الداخل، وربما في بعض الحالات على قاعدة المسكن. وقد وجدت غرف في عمق يصل إلى سبعة أمتار، وهو أكبر عمق تم تحديده لتلك النوعية من الأعشاش.
كما أن الأنفاق إما بيضاوية وإما دائرية المقطع، يتراوح ارتفاعها ما بين 2.9 سم إلى 5.5 سم. أما الأنفاق البيضاوية فعرضها يكون أكبر بأربع مرات من ارتفاعها، وأما الأنفاق الرئيسية تتميز بطولها لتعبر امتداد العش كي تتصل بالأنفاق الأخرى لتشكل نظامًا دائريًّا (الطريق الدائري).
لقد اهتمت بعض الدراسات بالتلال الترابية التي تعلو بعض أعشاش النمل من نوع (Atta)، وبتأثيرها على تهوية ومناخ تلك الأعشاش (القرى) تحتها. وبناء على دراسة أجريت على أحد تلال النمل بالأرجنتين من نوع (Atta Vollenweideri)، فقد لوحظ وجود 169 فتحة نفق موزعة بانتظام على سطح هذا التل الذي يرتفع مترًا واحدًا عن سطح الأرض ويساوي قطره 3.1 مترًا.
وقد وجد أن الرياح السطحية، تندفع من خلال بعض الأنفاق المركزية للتل خلال فصل الصيف، لتهوية العش والمساكن الواقعة أسفل التل، وكذلك لخروج غاز ثاني أكسيد الكربون من داخل العش. كما لوحظ أن النمل يقوم بتغطية فتحات الأنفاق في التل بأبراج صغيرة (Turrets) كي تساعد على دخول الهواء إلى العش. كما أنه مع بداية فترة البَرْد في فصل الخريف، يقوم النمل بغلق حوالي 90% من فتحات الأنفاق في التل لتجنب دخول الهواء البارد إلى العش.
كيف يذكر القرآن قرى ومساكن النمل
لقد تطابق ذكر مسمى “وادي النمل” مع ما تم اكتشافه من امتداد مستعمرات النمل إلى آلاف الكيلومترات في بعض المناطق، مما يجعل تسمية وادٍ باسم النمل مطابق للواقع لكبر مساحة الأودية بصفة عامة، وكِبر مساحة مستعمرات النمل التي تشغلها، إلى جانب أن كل مستعمرة عملاقة تتكون من مجموعة من الأعشاش (القرى)، والتي بينها ترابط واتصال.
كما أن إطلاق مسمى “قرية النمل” كما ورد في بعض الأحاديث النبوية الصحيحة، فيه سبق علمي أيضًا، حيث إن تعريف القرية كما ورد ببعض معاجم اللغة هو “ما تقاربت فيه الأبنية المتخذة للسكن”، وهو ما اتضح أيضًا من دراسات أعشاش النمل المقامة تحت سطح الأرض في أعماق مختلفة، والتي أوضح تقارب وتركز مساكن النمل بها في أعماق محددة، وبخاصة الثلاثة أمتار الأولى تحت سطح الأرض.
إن الدراسات الحديثة التي أجريت على التركيب والتصميم الداخلي لأعشاش النمل، بيّنت احتواء هذه الأعشاش على طرق رئيسية وفرعية وغرف متعددة الشكل والحجم والموقع، وبالتالي بيّنت وجود وظائف متعددة لتلك الغرف ما بين حدائق ومخازن وغرف للفضلات وغيرها، وكذلك تناسب عدد أفراد النمل مع حجم ومساحة كل عش، كما أوضحت بعضَ الأساليب لتهوية تلك المساكن في الصيف، وأبرزت وجود غرفة شتوية في الأسفل في فترات البرد، مما يجعل الوصف القرآني لها بـ”المساكن” هو في غاية الدقة، في حين وصف (القرآن الكريم) النحل والعناكب بأن لها بيوتًا، وذلك لعدم وجود تلك الميزات.
إن من صفات “المسكن” أيضًا التي يمكن أن يتميز بها عن “البيت”، هو كونه متسعًا يفي بالوظائف والحاجات المتعددة لساكنيه. فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: “من سعادة المرء المسكن الواسع”، فكأن صفة الاتساع هي صفة لصيقة بالمسكن ولا يشترط وجودها في البيت، وهو ما ينطبق على مساحات وأبعاد غرفِ ومساكنِ النمل مقارنةً بأحجام النمل الصغيرة جدًّا.
كما أن البيت يمكن أن يكون فقط من حجرة واحدة، بدليل قوله تعالى: -عز وجل- (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ((آل
عمران:96)؛ فوصف الكعبة المشرفة -والتي تتكون من حجرة واحدة- بأنها بيت، أما المسكن يتميز عن البيت بتعدد الحجرات وتنوعها من ناحية الحجم والشكل والوظيفة، إلى جانب توفر وسائل الاتصال بين هذه الحجرات والتي تمثلت في الأنفاق الرأسية والأفقية بمساكن النمل.
لقد ربط القرآن الكريم بين وجود الجنات والحدائق وذكرِ “المسكن”، حيث يقول تعالى: -عز وجل- (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأَ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)(سبأ:15)، وكأن وجود الحديقة صفة تميز المسكن عن البيت. وهو ما تم اكتشافه في مساكن النمل تحت الأرض، حيث تخصيص غرف متعددة ومتسعة تستعمل لاستزراع الفطر وهو الغذاء الرئيسي للنمل من نوع قاطعات الأشجار. وقد أطلقت كل الدراسات والأبحاث على كل تلك الغرف اسم “Gardens”، أي “حدائق” باللغة العربية.
كما أن ذكر المساكن بصيغة الجمع في الآية الكريمة: -عز وجل- (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ((النمل:18) لا بصيغة الأفراد فيه إعجاز وسبق قرآني لعدم إمكانية رؤية تلك المساكن والغرف المتعددة تحت الأرض وقت نزول القرآن الكريم، ولكن الدراسات الحديثة أثبتت أنها تصل في بعض الحالات إلى الآلاف من الغرف والمساكن.
أما إذا تأملنا قول النملة في الآية الكريمة: -عز وجل-:(لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ((النمل:18)، يتضح من قولها الثقة المتناهية في قوة ومتانة تلك المساكن، حيث إن النملة كانت واثقة أن بدخولها هي وباقي النمل لتلك المساكن، لن يستطيع سليمان وجنوده أن يدمروها، وبالتالي فلن تتحطم تلك النملات.
لقد أوضحت الدراسات والأبحاث الحديثة أيضًا، أن أشكال الغرف والأنفاق تتراوح ما بين الشكل الكروي أو البيضاوي لكليهما، ومن المعروف من الناحية الهندسية أن الأشكال البيضاوية والدائرية المقطع والكروية، تتحمل الضغوط أو الأحمال من فوقها أكثر من الغرف أو الأنفاق ذات الأسقف المستوية، وهو مما يفسر ثقة النملة في متانة وقوة مسكنها، فهي بما أودع الله فيها من غريزة فطرية سليمة لاتخاذ أفضل الأشكال لمسكنها، ووجوده تحت الأرض، كانت مطمئنة لقوته ومتانته وعدم إمكانية تدميره فتتحطم هي بالتالي.
(*) كلية الآثار، جامعة القاهرة / مصر.