كلما مر بي العمر ينتابني شعور بدنو الأجل وباقتراب ملك الموت مني أكثر وأكثر، ويخيل لي كما لو كان يشير لي بأن دوري هو التالي. قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾(الأنعام:61)،وقال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(السجدة:11)، وقد مر بنا العرف على أن من تقدم به العمر وبلغ منه أرذله، لم ولن يعيش بقدر ما عاش، وأن هذه المرحلة العمرية من دلائل قرب انقضائه.
مع اليقين التام بأن لا أحد قط، يعلم متى وأين سينتهي أجله وينقضي عمره، قال تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، وسيكون في الوقت المحدد له سابقًا من المولى عز وجل، ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾(المنافقون:11)، فكل نفس ذائقة الموت، كما قال جل علاه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(العنكبوت:57)، قد يكون بعد ثواني أو دقائق أو ساعات أقل من ذلك أو أكثر لا يعلم توقيتها إلا الله. وقد يمتد بنا العمر إلى ما شاء الله، على غير ما نتوقع ونظن، قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾(الحج:5)، وقال: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى﴾(غافر:67).
وكلما امتد بي العمر، يلح على نفسي سؤال، ماذا أعدت لدارها الأخرى؟ وينتابني شعور بالخوف من تلقي الإجابة، وعلى أي حال سيكون خروجي روحي؟ وهل ستهون عليَّ سكرات الموت؟ وعند مواراتي التراب كيف ستكون ضمة القبر وضغطته؟ هل سيضيق قبري أم سيفسح وينيره الله لي؟ هل سيكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟ هل مقامي فيه مقام نعيم وسرور أم عذاب وشقاء؟ وماذا عن حسابي في الآخرة أيكون يسيرًا أم عسيرًا؟ وأتخيل مصيرها في كلتا الحالتين، وتتابين مشاعري بين الغبطة والحزن وبين السرور والأسى، أأبكي لقرب حلول أجلي، ومفارقتي الدنيا بكل ما فيها، وخوفًا من مصير لا يعلمه إلا الله؟ أم أبتسم رجاءً فيما عند الله، وطمعًا في رحمته، ومستبشرًا بأن يبدلني الله دارًا خيرًا من داري وأهلاً خيرًا من أهلي، وشوقًا للقاء الأحبة كما كان يقول بلال بن رباح رضي الله عنه، ولا أشعر إلا بقشعريرة في جسدي وارتجاف فرائصي، فأفوض أمري لله. وكلما مرت أمامي دقيقة من عمري دون أن أجعل منها رصيدًا للآخرة يلازمني إحساس بالغم والهم، وأتمنى لو أن كل ما مضى من عمري تجمع أمامي مرة ثانية لتحويله لحسنات.
كنت أظن أن ما عليه من شباب وصحة وقوة، سيستمر بي على ما هو كائن، لكن خاب ظني بمرور السنين، فلم يدم أي منها على حاله، وما من نعمة أنعم الله بها عليَّ إلا وجاء الوقت وذهبت عني أو ذهبت عنها برضاي أو بغيره، نعمة الصحة والمال والولد والوظيفة والمركز، كله زال ولم يبق لي إلا الذكريات، بحلوها ومرها بطيبها وخبيثها بجيدها ورديئها، فإن كانت خيرًا حمدت الله عليها كثيرًا، وإن كانت شرًّا فأسارع إلى التوبة والاستغفار والدعاء. كل شيء هلك وفني، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾(الرحمن:26)، فيا ليتني اغتنمت شبابي قبل هرمي وصحتي قبل سقمي، قال تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾(الزمر:56)، يا حسرتي على ما ضيعت من العمل بما أمر الله به، ويا حسرتي على ما قصرت في طاعته وحقه، يا ليتني كنت انصعت لمن نصحني وقتذاك بالبعد عما أنا فيه، ويا ليته لم يكتف بنصحي، ومنعني بكل قوة، نعم كنت سأتصدى له وتدور بيننا مشاجرات، تنتهي بأذية أي منا، ولكن أذية بدني بالأمس أهون عليَّ كثيرًا مما ينتظرني غدًا، ومما أعيشه الآن من تأنيب ضمير وأسف على ما فات، وما أصابني من فرط اتباع الشهوات، كنت أتلذذ بالمتع ولم أكن أشعر بأي نفور عنها، ولا أفيق منها إلا على عواقبها ومآلاتها.
وكلما صادفتني لحظة تفكر فيما أقوم به، راودني التسويف والمماطلة والتأخير، والاعتماد على رحمة الله ومغفرته، ليدفعني في نفس الطريق، لأبقى على ما عليه، وأنغمس فيها حتى أذناي. فلم يبق لي الآن إلا الندم على ما مضى، والعزم الصادق إلا أعود إليه، ومتابعة ما أستقبله من عمري، بالإيمان الصادق والعمل الصالح، رغبة في عفو الله، وطلبًا لمغفرته، ورجاءً لرحمته، وليبدل الله سيئاتي إلى حسنات، فضلاً منه وإحسانًا، ولله الحمد والشكر، وإن ضعفت قوتي، فعزيمتي لم تفتر بعد، وما ضعف بدن عما قويت عليه النية، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾(طه:82).
ولذا أقر وأعترف بأني أذنبت وارتكبت من المعاصي ما لا يمحوه إلا عفوك يا عفو، ومن الآثام ما لا يزيحه إلا غفرانك يا غفور، ومن السيئات ما لا يزيلها إلا رحمتك يا رحيم، ربي لم أعبدك حق عبادتك، ولا أحد يقدر أن يعبدك يا الله حق عبادتك، ويعرفك حق معرفتك، ويتقيك حق تقواك، ويعظمك حق عظمتك، ولو عبدتك يا الله بكل ما أستطيع ما أدى ذلك من حقك شيئًا.
ربي لم أؤدِّ ما يجب عليَّ، وحدت عن سبيلك إلى غيره من السبل، وما من طريق سلكه الشيطان، إلا وسلكته حبوًا أو مشيًا أو ركضًا، واتبعت سبل شياطين الأنس شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، رغم أن كيد الشيطان كان ضعيفًا، إلا أن ضعف نفسي أمام المغريات، قد أعطى لضعف الشيطان قوة وتسلطًا عليَّ، ذلك أن قوة العدو في أحيان كثيرة لا تستند إلى قوة ذاتية لديه، بقدر ما تستند إلى ضعف الخصم وتراخيه واستسلامه، والمعصية قد تكون زلة عارضة، نتيجة لضعف في الإرادة ينتهي بعد حين، أو تكون غائرة في النفس متمكنة منها ساكنة في أعماقها، ويبدأ الشيطان غوايته، بخطره على البال، ثم فكرة، ثم همة وعزم، ثم فعل، ثم يتحول الفعل إلى عادة وسلوك، وأصعب الحرام أوله ثم يستسهل ويستساغ ويحلو، ثم يبحث عنه أو عن حرام مشابه له، فإذا أراد الفرد منا أن ينجو من حبائل الشيطان فلا يستسلم لخطواته، وليحذر أول خطوة، فالتنازل الأول يجر للتنازل الأخير في كثير من الأحوال.
لقد غرتني الدنيا واستعبدتني الشهوات فأطلقت لها العنان، واستهوتني نزواتي، فاستبحت المنكرات والرذائل، امتدت يدي لما لا يحل لي، بطشت وضربت بغير حق، وكتبت ما لا يحوز كتابته، مروجة لباطل ومشيعة لفاحشة وناشرة لفساد، وتوسعت في الكسب من ربًا ورشوة وسرقة وغش واختلاس، وبصري طاف بكل عورة تتبعها وتفحصها وتمحصها ثقل غطاؤها أم خف، ولساني خاض في كل عرض وقذف وسب وأهان واغتاب ونمَّ ما لا يعد ولا يحصى، وأذني استمعت إلى ما حُرم استماعه، رجلي سارعت لكل متعة، فاستحسنت الاختلاط بالجنس الآخر في النوادي والحفلات الماجنة والشواطئ والرحلات، وبطني اشتهت كل ما لذ وطاب، من مأكل ومشرب فاستطعمت المسكرات والمخدرات وغيرهما من محرمات الأطعمة، استقويت على الضعيف، وتنمرت على كل ما كان تحت يدي، تعاليت وتكبرت عليهم، وحسدت كل ذي نعمة ليس في حوزتي منها.
لا أدري كم أضعت من متع حلال باستعجالي لمتع الحرام، وكم أكلة حرام منعت عني أكلات حلال، وكم من لذة خبيثة فوتت لذات طيبات، وكم من فضيلة أضاعتها المعصية، ولو تذوقت الحلال لاستشعرت بحلاوته التي تفوق كل لذات الحرام، ولكن ظلمت نفسي باستجابتي لأهوائها وشهواتها فكنت سببًا في هلاكها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾(الطلاق:1).
ومالي لا أعترف بذنوبي وقد قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(التوبة:102)،كما قال تعالى في شأن أبوانا آدم وحواء عليهما السلام: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(الأعراف:23)، وحكى عن سيدنا موسى قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(القصص:16)، وعن سيدنا يونس: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأنبياء:87)، وأصبح هذا الدعاء وهذا الاعتراف من خير الأدعية التي تنجي العبد من كربه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (دعوة ذي النون وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلا استجاب الله له).
فلا بأس من أن نعترف بذنوبنا في خلوتنا مع الله ومناجاتنا له، فمن ستره الله في الدنيا فلا يفضح نفسه على رؤوس الأشهاد، كما يجوز الاعتراف في حالة مصلحة تعود على المعترف أو على الناس، نقر جميعًا ونعترف، ولا نكابر ولا نبرر لأنفسنا ما ارتكبناه، ولا نقنع أنفسنا باضطرارنا لفعله، ولا نسوق الحجج والبراهين لذلك، وكفى بالله شهيدًا علينا، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما أخفينا وما أعلنا، وهو أعلم بنا منا، فلن ينفعنا الندم بعد الممات، قال تعالى في شأن الذين لم يعترفوا بتقصيرهم إلا بعد أن ذاقوا عذاب النار: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(الملك:11)، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)؛ نعترف اعترافًا نرجو الله تعالى أن يسقط به السيئات وتتهاوى أمامه الذنوب، اعترافًا ينشرح معه الصدر، ونتخلص به من تأنيب الضمير، ونفتش في زوايا النفس لنمسح غبار السنين، ونشمر به عن ذراعينا ونتحفز لننطلق بعد غياب طال زمنه، فنطرق كل باب من أبواب الخير، بلا تقاعس ولا تهاون وبكل تأهب وتصميم على تعويض ما فات والله المستعان. فالاعتراف بالذنب، إذا اقترن بالندم، والإقلاع والعزم على عدم العودة، فإنه يعتبر من علامة الفوز وتشبث بطوق النجاة، قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾(غافر:11).
يا رب رجعت إليك تائبًا، رجعت إليك نادمًا، رجعت إليك مستغفرًا، يا رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، واسترني بسترك الجميل، ولا تفضحني بين خلقك، ولا تخزني يوم يبعثون، وأعتق رقبتي من النار، وأدخلني الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أستغفرك من كل ذنب يعقب الحسرة ويورث الندامة ويحبس الرزق ويرد الدعاء ويمحق الحسنات ويضاعف السيئات ويحل النقمات ويغضبك.
اللهم فيما بقي لي من عمر، اهدِ قلبي وكف أذني وعيني ولساني وسائر جوارحي عن فعل ما يغضبك وسخرني لطاعتك وطاعة رسولك ولكل عمل يقربني من الجنة ويبعدني عن النار. وأجب دعائي، إنك على كل شيء قدير، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر:53)، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد منكم بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يغمدني الله برحمة منه وفضل).