الجرافيتي.. عندما تتكلم الجدران

يرى المؤرخون أن أصول كلمة “جرافيتي” اللغوية ترجع إلى الأصل اليوناني Graphein)) بمعنى يكتب، أو الأصل الإيطالي (graffiato) التي تعني الخدش. ومنها أخذ معناه المعاصر حيث يعرف الجرافيتي بأنه فن الكتابة أو الرسم على الجدران الخالية بعبارات ورسومات تلفت الأنظار، وتخاطب عقول الجماهير والحكومات، وتحرك مشاعرهم نحو قضايا معينة كمواجهة التدخين، أو التلوث، أو أحيانًا آراء تجاه قضايا اجتماعية، أو سياسية محددة كمناصرة اللاجئين أو دعم شرائح معينة. وهو ما يمكن اعتباره رسالة ووسيلة سهلة ومجانية للتعبير عن الرأي، ولكن بطريقة غير مرغوب فيها، أو بدون موافقة صاحب المكان، وهو ما قد يمثل اعتداء على حقوق الغير، وعملاً ضد القانون في كثير من دول العالم.

ويؤكد العلماء والباحثون أن الإنسان مارس فن الجرافيتي منذ 30 ألف عام، حيث كان القدماء يقومون بالرسم على حوائط الكهوف باستخدام عظام الحيوانات، وقد مارسه الفراعنة والإغريق والرومان، كما انتشرت تلك الرسوم في مصر بواسطة الفرنسيين أثناء الحملة الفرنسية (1798-1801).

وفي التاريخ المعاصر عرف الجرافيتي بشكله الحالي في عام 1920 في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما مارس بعض الأفارقة ذوي البشرة السمراء هذا الفن رسمًا وكتابةً على الجدران بعبارات تندد بالتمييز العنصري، والاضطهاد، وسياسة الحكومة الأمريكية ضد السود، كما حدث في مدينة نيويورك في عام 1970م، حيث أراد عدد من فناني الطبقة الفقيرة في نيويورك لفت الأنظار إلى حالتهم الاقتصادية ووضعهم المأساوي، فاتجهوا إلى فن الجرافيتي، والرسم والتلوين بعبارات تعبر عن وضعهم، والرسم على عربات القطارات في مترو الأنفاق، كما ارتبط الجرافيتي بموسيقى الهيب هوب في نيويورك.

وقد انتقل فن الجرافيتي إلى أوروبا في مطلع الستينات في أوروبا حيث تعد فرنسا وإيطاليا من أهم المعاقل لفن الجرافيتي. ثم كان العام 1979، حيث أقيم أول معرض لهذا الفن في روما بواسطة الفنانين لي كونيس وفريدي، ليصير بعدها الجرافيتي أكثر انتشارًا، رغم ما واجهه من صعوبات، وبخاصة أن هناك حكومات حاربت هذا الفن وأصدرت قوانين تجرمه وتعتبره تخريبًا، وليس فنًّا. بينما يناضل عشاق هذا الفن من أجل انتشاره دون النظر إلى ما يمثله أحيانًا من اعتداء على حقوق الآخر ومخالفة القوانين، ولذلك اضطر كثير من فناني الجرافيتي إلى إخفاء هوياتهم وأسمائهم. ويتميز فن الجرافيتي بانتشاره في الشوارع، وعلى جدران الحوائط، وداخل الأنفاق، والأسوار الخالية، ووسائل المواصلات.. وفي كل مكان تقع عليه العين.

يعد الجرافيتي اليوم أداة للتعبير عن الآراء السياسية والاجتماعية، ووسيلة دعائية، ليصير في الأخير نوعًا من أنواع الفن الحديث، وقد ظهرت شركات متخصصة في صناعة الدهان السائل الذي يمتاز بالألوان الملفتة وسرعة الجفاف، وظهرت بعض المجلات المتخصصة في فن الجرافيتي مثل مجلة غرافيت الفرنسية التي تهتم بهذا الفن الذي انتشر بين الشباب الذين يملكون القدرة على الرسم أو الكتابة على الجدران، ومنهم من يعبر عن حبه لحبيبته بعبارات رومانسية، أو عشقه لناديه المحلي أو العالمي. ومنهم من يستغل الجرافيتي في التعبير عن آرائه السياسية، وربما الإساءة إلى أشخاص بعينهم.

ويستخدم كتاب ورسامو الجرافيتي مواد بسيطة أو متداولة مثل رذاذ الطلاء، عجينة القمح، الاستنسل، والملصقات ويستغلونها في كسر ملل المراكز الحضرية بالألوان الحيوية والمبهجة، فعملهم أبعد من رسم لوحة هنا وهناك، بل صارت أفكارهم ورؤياهم الآن تزين جداريات الهياكل الضخمة من الأبراج إلى الجسور مع توقيعهم الجمالي، وعبر به الرسامون عن مشاعر وهموم الملايين. ويستخدم فنانو الجرافيتي أحجامًا مختلفة من صمامات رش السبراي للتحكم في انتشار وضغط الطلاء وإعادة ملء الأوعية لتوفير المال، أو استخدام وسائل أخرى للطلاء الأقل ثمنًا.

وغالبًا يستخدم بخاخ الطلاء في الرسم، وللتوقيع. أما قلم الطلاء فيستخدم للتوقيع، ولكن لا يمكن استخدامه للرسوم، وهناك أغطية خاصة للتحكم في مساحة الرش وشكل البقعة بنجاح، وتباع على حدة وتسمى بالقبعة، أما أدوات النوع الآخر (الجرافيتي المكتوب) فيستخدم لكتابة عبارات معينة ومقصودة، أو التوقيع، (أقلام الطلاء مصنوعة مخصصة للجرافيتي ولها مقاسات مختلفة)، وهي علب طلاء ذات منفذ إسفنجي مقوى، وتكون مصنوعة ومخصصة لهذا الغرض.

 الجرافيتي بين التأييد والرفض

يواجه فن الجرافيتي الكثير من الجدل، فقد صار يمثل إشكالية وحالة جدالية ما بين الرفض والقبول، فمن الباحثين والعلماء من يرون أنه فن ووسيلة للتعبير عن الآراء والأفكار بشكل هادف وديمقراطي، في حين يرى الكثيرون أن الكتابة أو الرسم على الحائط بدون تصريح أو إذن يعد خرقًا للقانون، وإنه تشويه بصري، ومجرد شخطبة. ومع كل تلك حالة الجدل والخلاف حوله، استمر هذا الفن في الانتشار مشكلاً عالمًا خاصًّا به بالرغم مما يسكنه من غموض؛ فهو اليوم صار فناً معترفًا به، ويجد رواجاً واسعاً في معظم بلاد العالم. وهو فن بصري يمتاز بالتجديد والاختلاف عن الفنون الأخرى المتداولة التي نشاهدها في الصالات ومعارض الفنون كالتجريدية والتأثيرية والوحشية والتكعيبية.

ومعظم فناني الجرافيتي ينتمون لفئة الشباب، ويرون أن ممارسة فن الجرافيتي حق من حقوقهم ووسيلة متاحة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية، وأن الجرافيتي ما هو إلا وسيلة للرفض، بينما ترى الحكومات أن هذا الفن ضد الطبيعة، ويمثل نشازًا وتلوثًا بصريًّا، بجانب ما يكلفه من أجل إزالته. ففي ألمانيا تتكلف الحكومة الألمانية 200 مليون يورو سنويًّا من أجل إزالة وتنظيف الجدران التي يمارس عليها عشاق هذا الفن هوايتهم، بينما يؤكد الفنان التشكيلي بنيامين سويالا (إننا لا نجد أماكن كافية في مدينة بون لممارسة هذا الفن في الوقت الذي يجد الفنانون في مدينة لايبنريج مساحات كبيرة).

ومن أشهر فناني الجرافيتي الفنان الإنجليزي “بانكسي Banksy”، حيث امتاز بانكسي بالأعمال الجريئة التي غالبًا ما تكون سياسية ضد الحروب والرأسمالية والنفاق والجشع، ويرى البعض بانكس الأكثر شهرة وعبقرية وموهبة وقدرة على تحريك الناس، ولفت أنظارهم وتفجير قضايا من خلال خطوط وريشة وفكرة، بينما يراه البعض مخربًا يعمل بطريقة غير شرعية وضد القانون، وقد انتشرت رسوماته على جدران لندن وبرايتون وبريستول، والضفة الغربية وغزة وحققت شهرة كبيرة، وبيعت أعماله بمئات ألوف الدولارات، كما حظي بانكس بإعجاب مشاهير الفنانين أمثال براد بيت وأنجلينا جولي، حيث يحرصون على اقتناء أعماله التي تتسم بالغرابة والغموض والجرأة.

وقد انتشر استخدام الجرافيتي في مجالات الدعاية والإعلان، والتعبير عن الرأي، فهو أسلوب متاح للتعبير عن الرأي أو إرسال رسالة سريعة ومختصرة ومعبرة وجديدة وفاعلة إلى الحكومات والأنظمة، والتعبير عن الرفض باستخدام وسيلة أكثر انتشارًا في الآونة الأخيرة، كما أنها باتت ذات تأثير قوي، ورغم ما يجده هذا الفن من رفض من شريحة كبيرة داخل المجتمعات خصوصًا الأوروبية، حيث يرونه عملاً تخريبيًّا وغير شرعي؛ فإنه تحول إلى فن يومي متجدد، ويراه البعض فنًّا أو رسمًا أو كتابات، وبشكل عام يجري الرسم دون إذن صاحب الملك، ولذلك يعد انتهاكًا للقانون وتخريبًا.

ويقول أروين أدمان في كتاب (الفنون والإنسان) الرسام لا يسعى لمحاكاة الطبيعة، والمهم هو الحقيقة الجمالية أي الصفاء الحسي والمتعة التشكيلية التي يحس بها الفنان في لحظة معينة من لحظات الرؤيا، فيجسمها في الحجر أو على لوحة، والفنان يصل إلى هذه الحقيقة من خلال اللون والخط، ويقول عمار أبوبكر أحد أشهر فناني الجرافيتي في مصر إن فنان الجرافيتي يملك منبرًا إعلاميًّا قويًّا يخاطب فئة كبيرة من الناس، من خلال اختيار المكان والفكرة التي يناقشها.

وفي بلدان أمريكا الجنوبية يمثل الجرافيتي فن الشارع أو فن الحفر، وصوت المجتمع في الأماكن العامة، وصوت الجماعات المهمشة والشباب الذي يسعى إلى من يسمع صوته. ويركز الجرافيتي في هذه البلاد على القضايا السياسية والكفاح ضد الحكومات والأنظمة الاستبدادية ومواجهة السلطات باستخدام طلاء الإيروسول أو رش السبراي.

كما ظهر هذا الفن مع اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.. وغيرها، ففي مصر لم يكن الجرافيتي معروفًا بشكل واسع حتى انطلقت ثورة 25 يناير 2011؛ فظهر هذا الفن في ميدان التحرير، وعلى سور الجامعة الأمريكية، ثم انطلق إلى باقي المحافظات في الإسكندرية والسويس وبورسعيد، وظل هذا الفن يحظى بالاهتمام حتى اليوم. كما استخدم هذا الفن مشجعو الأندية الكروية “الألتراس” للتعبير عن أفكارهم التي يريدون توصيلها إلى الشارع برسمها على الجدران في المناطق الشعبية والحيوية، ومناقشة القضايا العامة بجانب الدعاية لأنديتهم وتسجيل انتصارتها وبطولاتها.

ويستمر الجدال والمطاردات بين الحكومات وعشاق الجرافيتي في كل مكان حتى وصل إلى وسائل الاتصال الحديثة التي باتت أكثر انتشارًا وسهولة من ممارسة الجرافيتي في الشارع، والسؤال الآن هل سيظل هذا الفن في انتشار حول العالم أم سيخبو مع مرور الوقت، وبخاصة أن الجرافيتي لا يعيش طويلاً على الحوائط بسبب عوامل الجو والتعرية صيفًا وشتاءً، ومطاردة البلديات والحكومات بإزالة الرسومات؟

ولا يمكن أن نجزم بأن الجرافيتي يمكن القضاء عليه، فهناك مدن مشهورة في أوروبا بهذا الفن، قامت بتحديد أماكن لرسامي هذا الفن الذي صار له شعبية واسعة ومؤيدون، بينما لا يجد فن الجرافيتي عربياً تلك المساحة التي يجدها أوروبيًّا، ويؤخذ على الرسامين عربيًّا عشوائية اختيار الأماكن أحيانًا وسطحية القضايا والأفكار، والإساءة في التعبير أحيانًا.

إننا أمام فن يملك شعبية واسعة ورواجًا في معظم مدن العالم. وفي ظل الصعوبات التي يواجهها الشباب، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في عديد من دول العالم؛ سيكون لفن الجرافيتي أهمية ودورًا أكبر؛ لأنه فن غير مكلف ماديًّا ولا يحتاج في ممارسته سوى لألوان الطلاء والبخاخ ومساحة خالية لنقل ما يريده فنان الجرافيتي من آراء ورسالة وفكر وموهبة في التعبير بخطوط وريشة وألوان.