الوصول إلى السعادة غاية يسعى إليها البشر جميعًا، ومن ثم شغلت أذهان المفكرين والفلاسفة والمتكلمين عبر العصور، وتصور كل واحد منهم السعادةَ حسب معتقداته ورؤيته للحياة. وممن انشغل بذلك من مفكري الإسلام أبو حامد الغزالي، وابن القيم، وابن رجب الحنبلي، وابن الجوزي، وغيرهم.. وامتد هذا الفكر إلى العصر الحديث، فحاول الوصول إلى كمال السعادة كل من ابن باديس، ومحمد إقبال، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم كثير.. إذ سطروا ذلك في أدبياتهم، مثل علامة عصره ورباني زمانه الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.
يرى النورسي أن الرحمة بين الناس والشفقة على الولد ومحبته من أعظم المنن الجالبة للسعادة: “فمحبتك لمن استودعك الله إياهم أمانةً لتقوم بتربيتهم ورعايتهم، إنما هو حب مكلل بالسعادة والبهجة، وهو نعمة إلهية في الوقت نفسه. فإذا شعرت بهذا، فلا ينتابك الحزن على مصابهم ولا تصرخ متحسرًا على وفاتهم؛ إذ إن خالقهم رحيم بهم حكيم في تدبير أمورهم، وعند ذلك تقول إن الموت بحق هؤلاء لهو سعادة لهم، فتنجو بهذا من ألم الفراق وتتفكر أن تستدر رحمته تعالى عليك”.
فإذا استوى عند امرئ المنع والمنح رضًا بالقضاء، أحس بتمام السعادة، وهذا ما صنعته أم سليم رضي الله عنها عند فَقْد ولدها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اشتكى ابنٌ لأبي طلحة فمات وأبو طلحةَ خارجٌ، فلما رأتْ امرأتُه أنه قد ماتَ هيَّأتْ شيئًا ونَحَّتْه في جانب البيتِ، فلما جاء أبو طلحة قال كيف الغلامُ؟ قالت قد هدَأَتْ نفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظنَّ أبو طلحة أنها صادقةٌ، قال فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمَتْه أنه قد ماتَ، فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لعل الله أن يباركَ لكما في لَيلتِكُما”، قال سفيانُ: فقال رجل من الأنصار فرأيتُ لهما تسعةَ أولادٍ كلُّهم قد قرأ القرآنَ. (رواه البخاري).
والسبب في تلك السعادة بهذه الكيفية، أنها تزيد المخلوق تعلقًا بالخالق، فيخرج من الحالة البشرية ليقترب من الحالة الملائكية: “فللملائكة سعادة عظمى، إلى درجة لا يدركها عقل البشر ولا يستطيع أن يعرفها إلا المَلَك نفسه، وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم، وفي الأعمال التي يؤدونها في سبيله، والخدمات التي يقومون بها باسمه، والإشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم إليه، والتفسح والتنزه الذي ينالونه بمطالعة مُلكه وملكوته، والتنعم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله”.
ويرى النورسي سهولة الوصول لذلك بالتلذذ بمداومة الذكر بأسماء الله الحسنى، ثم بمحبته ومحبة الخير، فيقول: “فتح الله لك مائدة النعمة والسعادة واللذة الشاملة للأسماء الحسنى، والصفات الربانية المقدسة، ضمن دائرة الممكنات، ثم أعطاك المحبة التي هي نور من أنوار الإيمان، فأحسن إليك بمائدة نعمة وسعادة ولذة لا تنتهي أبدًا”.
وإذا تباعَدَتْ عن الإنسان المحبة فسيجد السعادة في الإحسان: “فمن المعلوم أن الإنسان مثلما يتلذذ بسعادته الذاتية، فهو يتلذذ أيضًا بسعادة الذين يرتبط بهم بعلاقة ومـحبة ومثلما يحب من ينقذه من البلاء، فهو يحب من ينجي محبيه من المصائب أيضًا. وهكذا، فإذا ما فكر الإنسان -وروحه مفعمة بالامتنان لله- في إحسان واحد فقط مما لا يعد ولا يحصى من الإحسانات العظيمة التي قد غمر بها الله سبحانه وتعالى الإنسان وشمله بها؛ فإنه سيفكر على النحو الآتي: إن خالقي الذي أنقذني من ظلمات العدم الأبدية، ومنحني منحة الـخلق والوجود، ووهب لي دنيا جميلة أستمتع بجمالها هنا على هذه الأرض، فإن عنايته أيضًا ستمتد إليّ حين يحين أجلي، فينقذني كذلك من ظلمات العدم الأبدي والفناء السرمدي، وسيهب لي -من فضل إحسانه- عالمًا أبديًّا باهرًا زاهرًا في عالم البقاء في الآخرة.. وسينعم عليّ سبحانه بحواس ومشاعر ظاهرة وباطنة لتستمتع وتتلذذ في تنقلها بين أنواع ملذات ذلك العالم الجميل الطاهر. كما أنه سبحانه سيجعل جميع الأقارب، وجميع الأحبة من بني جنسي الذين أكن لهم حبًّا عميقًا وأرتبط معهم بعلاقة وثيقة، سيجعلهم أهلاً لهذه الآلاء والإحسانات غير المحدودة.. وهذا الإحسان -من جهة- يعود عليّ كذلك، إذ إنني أتلذذ بسعادة أولئك وأسعد بها.. فما دام في كل فرد حب عميق وافتتان بالإحسان كما في المثل “الإنسان عبد الإحسان”؛ فلا بد أن الإنسان أمام هذا الإحسان الأبدي غير المحدود، يعيش في سعادة أبدية”. وإلى هذا، أشار القرآن في قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)(الرحمن:٦٠)، وفي الحديث الشريف: “إن الله كتَبَ الإحسانَ على كل شيء” (رواه مسلم). والتضحية صنو الإحسان، ومن ثم يقول النورسي: “وكذا رأيتني قادرًا على الإحساس بسعادة غير محدودة، ناشئة من سعادة جميع أحبائي -الذين أضحي بحياتي وببقائي بكل رضى وسرور من أجل سعادتهم- وذلك بوساطة الشعور الإيماني والانتساب والارتباط والعلاقة والأخوة؛ إذ الصديق الرؤوف يَسعد بسعادة صديقه الحميم ويتلذذ بها. ولهذا فإنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده، ينجو جميع ساداتي وجميع أحبابي، وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء والأصفياء وفي مقدمتهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وينجو جميع أحبابي الذين لا يحصون، ينجون كلهم من الإعدام الأبدي وينالون سعادة سرمدية خالدة، فأحسست بذلك الشعور الإيماني، فانعكس عليّ شيء من سعادتهم وتذوقتها ذوقًا خالصًا، فغمرتني سعادة عظمى بسبب تلك العلاقة والأخوة والارتباط والمحبة”.
ويرى الأستاذ النورسي أن أفضل مظاهر العطاء يكون للمحتاجين وبخاصة كبار السن، فيقول: “أما رعاية الشيوخ والاعتناء بهم، فضلاً عن كونه مدارًا لثواب عظيم -وبخاصة الوالدين- والظفر بدعائهم وإسعاد قلوبهم والقيام بخدمتهم بوفاء وإخلاص، يقود صاحبه إلى سعادة الدنيا والآخرة، كما هو ثابت بروايات صحيحة وفي حوادث تاريخية كثيرة. فالولد السعيد البار بوالديه العاجزين سيرى الطاعة نفسها من أبنائه، بينما الولد العاق المؤذي لأبويه -مع ارتداده إلى العذاب الأخروي- سيجد كذلك في الدنيا مهالك كثيرة. نعم إنه ليست رعاية الشيوخ والعجائز والأبرياء من الأقربين وحدهم، بل حتى إذا صادف المؤمن شيخًا مريضًا ذا حاجة جديرًا بالاحترام، فعليه القيام بخدمته بهمة وإخلاص ما دامت هنالك أخوة إيمانية حقيقية وهذا مما يقتضيه الإسلام”.
ويبدأ الإمام النورسي بنفسه ليعطينا القدوة فيخاطب الشيوخ بقوله: “أَبْشروا فإن أمامكم شبابًا خالدًا ذا نضارة، وفي انتظاركم سعادة أخروية دائمة باقية هي أسمى مما فقدتموه من أنواع السعادة وأعلى منها، فهلموا واسعوا للفوز بها”، فيحول بكاءهم إلى بهجة وفرح. وما صنع النورسي ذلك مع الشيوخ إلا ليخرجهم بالأمل من ظلمات المرض والكسل واليأس، التي تلازم سن الشيخوخة، فيرى أن “الأمل المندرج في حسن الظن ينفخ الحياة في الحياة، بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الإنسان ويقتل الحياة”.
ويُعَوّل بديع الزمان النورسي على النساء حيث غرائز الرحمة والشفقة، فيقول: “والنساء هن رائدات الشفقة وبطلات الحنان، فإذا ما بدا الإخلاص في تلك الطائفة المباركة -طائفة النساء- فإنما سيكون مدار سعادة عظمى في المحيط الإسلامي”. وما ذهب النورسي إلى ذلك، إلا أنه يرى أن سعادة الكون تبدأ من المحيط الأصغر “الأسرة”، وفي ذلك يقول: “إن الحياة العائلية هي مركز تجمع الحياة الدنيوية ولولبها، وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجؤها الأمين، وإن بيت كل فرد هو عَالمه ودنياه الخاصة، فلا سعادة لروح الحياة العائلية إلا بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة”. و”سعادة العائلة في الحياة واستمرارها، إنما هي بالثقة المتبادلة بين الزوجين، والاحترام اللائق والود الصادق بينهما”. و”الزوج الرشيد لا يبني محبته لزوجته على جمال ظاهري زائل لا يدوم عشر سنوات، بل عليه أن يبني مودته لها على شفقتها التي هي أجمل محاسن النساء وأدومها، ويوثقها بحسن سيرتها الخاصة بأنوثتها، كي تدوم محبته لها كلما شابت تلك الزوجة الضعيفة، إذ هي ليست صاحبته ورفيقته في حياة دنيوية مؤقتة، وإنما هي رفيقته المحبوبة في حياة أبدية خالدة. فيلزم أن يتحابا باحترام أزيد ورحمة أوسع كلما تقدما في العمر. أما حياة الأسرة التي تتربى في أحضان المدنية الحديثة فهي معرَّضة للانهيار والفساد، حيث تبنى العلاقة فيها على صحبة مؤقتة يعقبها فراق أبدي”. وجعل النورسي مرد كل ذلك إلى التربية فقال: “وفحوى هذه الجمل التي وردت بهذا المعنى في رسائل النور هو أنه لا يمكن أن يكون -في هذا الزمان- تنعُّم بحياة عائلية وبلوغ لسعادة الدنيا والآخرة وانكشاف لسجايا راقية في النساء، إلا بالتأدب بالآداب الإسلامية التي تحددها الشريعة الغراء”.
بعد أن فصل الإمام النورسي لنا مفهوم السعادة وسبل الوصول إليها، يشرع في الأخذ بأيدينا إلى “دار السعادة” فيقول: “ورأيت أن الموت لأهل الإيمان تسريح من الوظيفة، والأجل هو بطاقته. فالموت -إذن- تبديل مكان ومقدمة لحياة باقية وباب إليها، وهو انطلاق من سجن الدنيا إلى بساتين الآخرة، وهو انتظار زمن الوصول إلى ديوان الرحمن الرحيم لاستلام أجرة العمل، وهو دعوة إلى دار السعادة”.
وإذا كان ابن قيم الجوزية قد دلنا على “مفتاح دار السعادة”، فإن النورسي يرى أن أسنان ذلك المفتاح في يد الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الشفاعة، فيقول: “إن إعطاء “المقام المحمود” لسيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى شفاعته الكبرى لأمته عامة، فهو -إذن- ذو علاقة مع سعادة جميع أمته. ولهذا فإن طلبه أدعية الصلوات غير المحدودة والرحمة غير المحدودة من أمته، هو عين الحكمة”.
والسعادة الأبدية في الآخرة لها غاية، وهي قوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طه:١٥)، ويوضح النورسي ذلك بقوله: “ما دام الله موجودًا، وهو واحدٌ أحدٌ أزلي أبدي، فلا بد أن محور سلطان ألوهيته -وهو الآخرة- موجود أيضًا.. وما دامت الربوبية المطلقة تتجلى في هذه الكائنات ولا سيما في الأحياء، وهي ذات جلال وعظمة وحكمة ورأفة ظاهرة واضحة، فلا بد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أي ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر.. أي إن تلك الدار موجودة قطعًا، ولا بد من الدخول فيها”.
(*) أستاذ جغرافيا الأديان، وكيل كلية الآداب، جامعة دمنهور / مصر.
المراجع
(١) رسائل النور (الكلمات)، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٧م.
(٢) رسائل النور (اللمعات)، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسلم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٧م.
(٣) رسائل النور (الشعاعات)، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٧م.