الإبداعات الفنية العربية في الحمامات الشعبية

كثير من الناس لم يعد يشغلهم أمر الحمامات الشعبية، إلا أن هناك الكثير أيضًا من عشاقها لا يزالون يتمسكون بما تبقّى منهـا، ويترددون عليها في مختلف أنحاء الوطن العربي، فهي تمثل لديهم مكانًا استجماميًّا أومنتدًى ترفيهيًّا يلتقون فيه.

يؤكد كثير من الرواة والمؤرخين القدامى أن هناك إشارات أخرى إلى أن النبي سليمان عليه السلام هو أول من صنع الحمام بمساعدة الجن. وتشير أكثر المصادر إلى أن إنشاء الحمامات الشعبية يعود إلى العصر الروماني في إيطاليا أو في الولايات الرومانية، في القرن الثاني قبل الميلاد.

لعبت الحمامات بأنواعها المختلفة دورًا هامًّا في حياة الشعوب، حيث كانت وسيلة هامة للنظافة وتخفيف آلام الجسم والبحث عن الجمال أيضًا، فالفراعنة استعملوا حمامات الطمي، وواروا أجسامهم في الرمال الساخنة، كما عرفوا فوائد الحمامات البخارية وطرق العلاج المائي، فكانت لهم في ذلك طقوس خاصة بهم، ولا تزال بعض آثارهم من تلك الحمامات  قائمة إلى اليوم.

الحمامات العمومية أو الشعبية التي نلاحظ استمرارها لليوم، توارثناها عن الأجداد، لم تكن حكرًا على على منطقة دون سواها أو على شعب دون آخر، ولها انتشار واسع، ومآرب كانت وما زالت  الكثير من الناس  وراء ارتيادها، ولها خطط وتصاميم خضعت لها في عملية بنائها، وواقعها معروف وملموس في البلاد العربية والإسلامية.

تشير أكثر المصادر إلى أن الحمامات الشعبية  يعود إلى العصر الروماني في إيطاليا أو في الولايات الرومانية في القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت الفكرة  وراء إنشائها بسيطة للغاية، وتقوم على مجموعة من الأحواض الصغيرة التي  تحتوي على الماء البارد والساخن، وبعض دهانات المساج وبعض التدليلك، وكانت مفتوحة أمام العامة صغارًا وكبارًا دون مقابل، وتواجدت حمامات خاصة بالأباطرة مثل نيرون ودقلديانوس وغيرهم. واتسمت بضخامتها، إذ ضمت في جنباتها مكتبات وملاعب وحدائق، فكانت بذلك تقوم بدور ترفيهي استجمامي إلى جانب عملية الاغتسال، أما الحمامات الشعبية أو العامة في البلاد العربية والإسلامية فظهرت مع بداية العصر الإسلامي.

في العصر الفاطمي فيذكر المقريزي أن الخليفة العزيز بالله هو أول من بنى الحمامات بمصر، وازدادت ازدهارًا وانتشارًا بشكل خاص في العهد العثماني، ومن الحمامات المصرية التي لا تزال قائمة نذكر حمام الملاطيلي الواقع في حي باب الشعرية، والذي يزيد تاريخ تشييده عن التسعمائة عام، وحمام قلاوون، وحمام السلطان إينال وحمام باب البحر، وباتساع رقعة الدولة الإسلامية وازدياد عدد المسلمين، ازدادت أعداد هذه الحمامات بشكل مذهل.

الحمامات الشعبية لها فوائد طبية عديدة ففضلاً عن الاستحمام العادي باستخدام المغاطس الساخنة والباردة وغرف البخار، فإنها تساعد أيضًا على الاسترخاء وعلاج آلام الظهر والتشنجات العضلية وتقشير الجلد الميت معتمدة على كيس معين، مصنوع من ألياف طبيعية لتنشيط الدورة الدموية في الجسم، وفتح الشعيرات الدموية وإزالة السموم المتراكمة على سطح الجلد.     

تعتبر الحمامات البغدادية من أبدع وأبهى الحمامات، فإلى جانب عددها الكبير، تميزت بطريقة خاصة في بناءها وإبراز مظهرها الخارجي للناس، إذ كانت تطلى بالقار فيتبادر إلى ذهن الرائي أنه رخام أسود، وهذا القار كان يجلب من عين بين الكوفة والبصرة، تنبع به ولا تنقطع حتى يصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف منها ويجلب إلى بغداد.

الحمامات الشعبية أو العامة في البلاد العربية الإسلامية، ظهرت مع بداية العصر الإسلامي وتحديدًا  بمصر، إذ أنشأ عمرو بن العاص أول حمام بالفسطاط، حيث يعتبر أول حمام عمومي في مصر، أما في العصر الفاطمي فيذكر المقريزي أن الخليفة العزيز بالله، هو أوّل من بنى الحمامات بمصر وازدادت ازدهارًا وانتشارًا بشكل خاص في العهد العثماني. 

وحسب ما أورده بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي في وصف أحد الحمامات البغدادية قائلاً: “رأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هارون ابن الوزير الصاحب شمس الدين محمد الجويني حمامًا متقن الصنعة حسن البناء كثير الأضواء قد احتفت به الأزهار والأشجار وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية، وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة.

بين بغداد والشام

من هنا ندرك بأن الحمامات الشعبية العربية وخاصة ببغداد، كانت على درجة عالية من الإتقان وإبراز الناحية الجمالية. وحسب ما روي أيضًا عن بعض الحمامات البغدادية، أنه وجد في صدر إحدى الخلوات حوض رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره، وأنبوب آخر برسم الماء البارد والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الند والعود.

أما في بلاد الشام فقد استعمل نوع من الآجر الخاص بالحمامات يعرف بالقرميد، وهذا ما نستشفه مما ورد في لسان العرب «القراميد في كلام أهل الشام آجر الحمامات» نظرًا لما لها من قوة وقدرة على تحمل حرارة النار المستعملة في تسخين المياه وحفظ حرارة الحمام. وكان في كل حمام من حمامات بغداد خلوات كثيرة، وكل خلوة منها تفرش بالقار، يطلى نصف حائطها مما يلي الأرض به، أما النصف الأعلى منه فيطلى بالجصّ الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما حسب تعبير ابن بطوطة.

وما يمكن قوله أن الحمامات الشعبية العربية قد تميزت في تخطيطها وعناصرها بالاستقرار، لكن قد تختلف في التفاصيل والعناصر الأخرى، ففي مصر كانت الحمامات إما مقتصرة على الرجال أو مزدوجة، أحدها للنساء والآخر للرجال على شكل متناظر يفصل بينهما حائل، وهي تحت تصرف نفس العائلة كما هو الحال في حمامات طبرية التي ذكرها ابن بطوطة، أو مختلطة، يدخلها الرجال ثم النساء، أو العكس.

وما زالت الكثير من الحمامات الشعبية وخاصة في بلاد المغرب العربي تتبع النظام الأخير. كما كانت تلحق في بعض الأحيان بمطاعم شعبية. وما تشترك فيه الحمامات الشعبية هو تكوين الحمام، من حيث الحجرات واختلاف حرارتها، التي كانت قد أشار إليها بطليموس في قوله «تحتاج الأبدان إلى تغير الفصول، فالشتاء للتجميد والصيف للتحليل والخريف للتدريج والربيع للتعديل».

وفي اليمن يتكون مبنى الحمام من ثلاث غرف أيضًا تأخذ نفس الترتيب من حيث درجة الحرارة، وهي متلاصقة تبنى تحت الأرض، أما ما يظهر على السطح فهو قباب تشكل سطح تلك الغرف الثلاث، وتؤمن لها دخول الضوء عبر نوافذ زجاجية. وقد تواجدت بعض الحمامات العثمانية التي تختلف في تصميمها العام نسبيًّا عن الحمامات الشعبية الأخرى، إذ تتكون من عدة غرف متدرجة من حيث سخونتها، تنتهي بقاعة كبيرة توجد بمنتصفها نافورة للماء الساخن ينبعث منها البخار، حيث تتم عملية الاسترخاء والتدليك من طرف مختصين.

يقول المؤرخون إن الخليفة الأموى الوليد ابن عبد الملك عندما بنى الجامع الأموى بدمشق تحدث إلى أهلها قائلاً: “تفخرون على الناس بأربع خصال بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فاحببت أن يكون مسجدكم الخامسة”. ذلك لأن حمامات دمشق التي عرفت منذ القديم هي أبدع حمامات الدنيا من حيث تميزت ببنائها وزخارفها وخدمتها.. وقد تحدث عنها الدارسون والمؤرخون ووضعت عنها الدراسة والكتب بدءًا من بن عساكر (570هـ).

إعادة الحياة للموروث الاجتماعي

إن الحمام الدمشقي الذي يعرف أيضًا بالحمام الشرقي هو طراز فريد من البناء العربي، وتقع الحمامات إلى جوار المساجد في الأحياء الدمشقية القديمة حيث لا يرى بمجمله إلا من سطوح المنازل المجاورة، فهو مؤلف من قبة كبيرة تهيمن على قباب صغيرة يخترقها النور بوساطة قمارى، وتعلو هذه القبة فقاعة بلورية (منور) وإلى جانبها مدخنة ويقسم الحمام إلى ثلاثة أقسام، ولا يزال يحافظ على هذا التقسيم حتى الآن  وهي: البراني والوسطاني والجوانبي.

تعد الحمامات الدمشقية كونها وجهًا من وجوه الإبداع والفن إلى طابع فريد من العادات والتقاليد، فالحمام مظهر من المظاهر الصحية وملتقى للحياة الاجتماعية، وحمام النساء يكون توقيته من بعد الظهر إلى المغرب، وكانت الأم التي لديها شاب تريد تزويجه تنتقي له عروسًا من الحمام حيث تتاح لها فرصة الانتقاء وإمعان النظر إلى القناة المبتغاة والاطلاع على صفاتها ومحاسنها.

هكذا ارتبط الحمام الشعبي بجملة من التقاليد والموروثات الاجتماعية التي كتب عنها الدارسون الكثير، كما ارتبط بقصص الحمامات في الأساطير والمأثورات، لكن هذا التقليد الجميل أخذ بالاختفاء حتى أوشك على الانقراض والتلاشي في الأعوام الأخيرة، فهل يمكن إعادة الحياة إليه كموروث اجتماعي؟

إن الحمامات الشعبية مثلت منذ من ظهورها وإلى يومنا هذا مقصدًا شعبيًّا له مزاياه الخاصة، يجد فيه قاصده ملاذًا للتخلص من متاعبه الجسدية وضغوطاته النفسية، ومكانًا للاغتسال والتطهر، بل تعدت ذلك لتتحول إلى مبنى أو مقر استشفائي يقصده المرضى رجاء الشفاء من الكثير من الأمراض والأسقام، كما مثلت ناديًا مصغرًا يتلاقى فيه الأحبة لتجاذب أطراف الحديث والترفيه عن الذات، ومما يؤكد نجاحها هو استمرار وجودها، وحفاظًا على مظهرها وتصميمها، حتى فيما يبنى منها حاليًا، رغم ظهور الحمامات المنزلية أو حمامات البخار التي يطلق عليها اسم “الساونا” في مصر لتعوضها أو تقوم بنفس دورها، لكن يظل للحمامات الشعبية طعمها، أو ذوقها الخاص، إذ يحس الداخل إليها بعبق التاريخ والأصالة بما تستحضره لديه من عادات وتقاليد الأجداد.

المصادر والمراجع:

أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، المقدسي محمد بن أحمد، تحقيق غازي طليمات، سوريا، دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

البداية والنهاية، أبوالفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، لبنان، بيروت، مكتبة المعارف.

تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي أبوعبد الله، تحقيق علي المنتصر الكتاني، لبنان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1405هـ.

رحلة ابن جبير، ابن جبير محمد بن أحمد الأندلسي، لبنان-مصر، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري، بيروت -القاهرة.

جريدة الشرق الأوسط،9/2/2023.

جريدة النجاح، 60/30/ 2023.

موقع إلكتروني www.chatsouria.com.