في بقعة من الأرض جوادة بالخير والبركات، حيث تتمتم شفاه السماء بالرحمة، وتشعّ عيونها الزرقاء بالسلام، وحيث العصافير متكئة على أذرع الأشجار تُرسِل زغاريدها وترانيمها وبهجتها للحياة.. وقفت الأم ترقب ابنها وهو يلهو حولها بطائرته الورقية الملونة.
رمقته بعينين تفيضان أملاً بأن يكون غد الأمة به أجمل، وأن يمتد نمو غرستها في الاتجاه الصحيح تمامًا نحو الشمس.. تريده مهندسًا للروح، طبيبًا للقلب، وبطلاً عظيمًا في دنيا الأخلاق. وبينما تنسكب الآمال الوردية على قلب الأمومة التوّاق، تدفقت نسمة ناعسة مشبّعة بأنفاس الزهر على وجهها الحالم، فتنفست بعمق حتى لكأنها تحتسي الهواء وهي تنكّس عينيها استرواحًا.. ولكن أفاقها من شرودها صوت بكاء مفاجئ لفتاة صغيرة تعدو باندفاع غاضب صوب أفراد أسرتها وهي تتوعد فتى الطائرة الورقية وتهدده بأن تشكوه لوالدها.
سارت أم الفتى توًّا إلى ابنها لتستفسر منه عن سبب بكاء الطفلة، فأخبرها بأنها طلبت منه طائرته الورقية لتلعب بها، لكنه رفض منحها الطائرة دون مقابل.
أصغت الأم لحديث ابنها باهتمام.. التفتت إليه بعينين طافحتين رقة وحنوًّا، وقالت والابتسامة الوديعة تكسو محيّاها: “إيهٍ بُنيّ، يا أملي الأخضر، هات يدك وتعال نتمشّى يدًا بيد وجنبًا إلى جنب، كم أشتاق أن نحلق معًا على بساط التأمل السحري، نتتلمذ سوية في مدرسة الطبيعة.. هيّا.. تعال راقب معي هذي الأزهار وخبّرني بمَ توشوش لآذان قلبك الصغير”.
أجاب الفتى ببراءة: “لا شيء أسمع يا أمي”.. قالت الأم برفق: “أما أنا فأسمعها تقول إنها تحبنا كثيرًا، ولذلك تقدّم لنا قلوبها العطرة مجانًا ودون مقابل، عربونًا لمحبتها.
إيهٍ يا ملاكي الصغير، هلمّ بنا نتعلم من حكيم الدروس الزرقاء، ذاك الكريم المُسمّى بالبحر.. لله ما أسخاه.. يعيش في أحشائه الدولفين والقرش فيتسع قلبه للإثنين على السواء.. يمخر أفلاكه المؤمن والكافر فلا ينحني مرحِّبا بهذا ولا يعبس بوجه ذاك.. يحمل سلاطين الناس كعبيدهم، وأحياءهم كأمواتهم، ويأكل من راحتيه الزرقاء؛ الإنسان والحيوان والنبات بلا فرق ولا حساب.. أفلا سألته يا صغيري عن دستوره في الحب والعطاء”؟ أصغى الابن إلى حديث أمه فاغرًا فاه، محملقًا في عينيها السوداويتين بدهشة البراءة، متفكرًا في عذوبة منطقها الجميل، وشلالُ الحيرة ينسكب من عينيه الصغيرتين.
تابعت الأم الحكيمة حديثها العذب وهي تنظر في محبوبها بعينين محمومتين، وتشدّ على كلتا يديه قائلة: “أوّاه يا طائري الصغير، ما بال هذي الأرض تؤرجح بلطف وحنان جميع عيالها بين ذراعيها دون انتظار مقابل؟ لِمَ تعتني بكل أبنائها دون تمييز؟ إنها ترضع الذئب والخروف، والنحلة والذبابة، والنخلة والحنظلة، والطود والحصاة، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والعالِم والجاهل، دون تذمر ولا تقصير.
أما بناتها الأشجار، فما أشبههن بأمهن الأرض؛ لهف قلبي عليهن فاتنات الحُسن، أميرات الجمال.. إنهن يملأن أياديهن بالثمار، ويقدمنها بسخاء غذاء شهيًّا للأحياء، في حين يكتفين بالتراب طعامًا لهن.. ألا ما أجمل الأرض، ثم ما أجمل ما تحمل فوق ظهرها من وعظ وتقى”.
كان الابن يحتضن وجه أمه بعينيه حرصًا على أن لا يفوته شيء من تعابير وجهها المُلهِم وتفاصيل حديثها المترع بالشهد، إن لكلماتها سلطانًا عظيمًا على فطرته السليمة. وقد لاحظت الأم بفطنتها خشوع بطلها الواعد، فراحت تسترسل في العزف على قيثارة الفكر والتأمل وهي تغذي السير باتجاه بائع العصير لشراء بعض المرطبات. وما إن جلسا على مقعد الحديقة وارتشفا بضع قطرات من عصير الفراولة، حتى أسدلت الأم أجفانها، وبابتسامة ساخنة وعاطفة متدفقة تابعت البوح الجميل: “لله ما أعذبه من شعور! أحسست يا فلذة كبدي وأنا أشرب هذه القطرات، بأني أدخلت الحياة بأسرها إلى جوفي، فكل ما في مصنع الحياة قد تعاون لإعداد هذا الكوب الصغير من عصير الفراولة، الأيادي التي بذرت، والتربة التي احتضنت، والسحب التي أمطرت فأنبتت، والريح التي ساقت السحاب لسُقيا الأرض، بل إن هذا الغمام المحمّل بالطهر والبركة والعذوبة، ما هو في الحقيقة إلا ثمرة قران أشعّة الشمس اللافحة بمياه البحر المالحة. إنه الابن الشرعي للشمس والبحر، لذا كان سخيًّا كريمًا معطاء كوالديه.
إنها لعمري مدرسة عظيمة، وعائلة كريمة، ومستودع عجيب، هذه الحياة المغلفة بالأسرار والمعجزات. إنما أنا وأنت -يا ضيائي- نشرب الآن نتاج المسكونة بأكملها؛ سواعد بشرية زرعت وحصدت وعصرت، وسواعد كائنات ساهمت في تلقيح النبات، وسواعد تربة وسواعد سحب وسواعد ريح وسواعد شمس”.
ارتعشت شفتي الفتى واخضلّت عيناه من شدة التأثر فصاح منفعلاً: “أمّاه! رويدكِ.. رفقًا بقلبي الصغير.. فلقد تنفستُ هذا اليوم حتى تشبّعتْ رئتاي جمالاً وعطرًا.. بوركتِ من أم مؤمنة حكيمة في كلماتها الشفاءُ والعافية.. كم صالحتيني مع نفسي ومع الطبيعة.. أثريْتِ روحي يا أمي، فداكِ روحي”.
تهللت أسارير الأم من تفجّر الرجولة المبكرة في كلمات بطلها الصغير، فقبّلته بين عينيه بحنان وهي تردد: “بل فداك أمك يا روحها”. أمّا هو فما تمالك نفسه بعد درس الجمال، فحمل طائرته الورقية وانطلق مسرعًا صوب الطفلة الحزينة يقدم لها الطائرة بسخاء نفس وطيب خاطر.. شكرته الطفلة وعائلتها، ووعدوه أن يعيدوا له طائرته قبل ما يغادروا المكان، إلا أنه أصرّ على أن تحتفظ الصغيرة بها وتعتبرها هدية من صديق يحلم بأن يصير من عظماء الغد.. تمامًا كأستاذته الطبيعة وعائلتها الكونية البديعة.
(*) أديبة إماراتية.