قال العلامة الشيخ طنطاوي جوهري -رحمه الله- في تفسيره لسورة الفاتحة: “لما كان أكثر الناس لا يلحظون العجائب الكامنة فيهم، ولا يعرف نفسه إلا قليل منهم وهم أكابر الحكماء والأولياء، وجب أن أبين في هذا المقام بعض رحمة الله عز وجل في العالم المشاهد (…) ومن هذه العجائب ما شاهده العلماء الباحثون في أمر النحل والنمل والعنكبوت (…) وأما النمل فمن عجائب الرحمة الخاصة به، أن الله خلق له حشرةً تسمى “افس” باللسان الإفرنجي، يحاربها النمل ويغلبها، ومتى غلبها أخذ يستولدها ويربيها ويسيمها في ورق الورد، ومتى أكلت وشبعت أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حلوة، فكأنه بقر له يشرب لبنه”(1)، وتحت عنوان “اكتشاف أقدم أليف نمل مدفونًا” نشر موقع Nature الطبعة العربية(2): لطالما وُجدت الحشرات التي تطمر نفسها في مستعمرات النمل منذ أن وُجد عائلها تقريبًا، ومنها الخنفساء التي عاشت منذ 52 مليون سنة، ووجدت مدفونة في الكهرمان، وهي أقرب مثال معروف لأليف النمل “Myrmecophile”؛ وهو النوع الذي يعتمد في بقائه على النمل. ويُعَدّ النوع المحدَّدة هويَّته حديثًا “Protoclaviger trichodens”، سلفًا منقرضًا للخنافس المعاصرة، ولديه سمات مميزة، كالشعر الذي ينقل به إفرازات حلوة إلى شغالات النمل.
إيلاف النمل
فمن عجائب تربية الله لخلقه في إطار رحمانيته سبحانه، ما ينشأ بين الخلائق من علاقات تكافل وتعايش، ومن ذلك ما ينشأ بين النمل وأنواع مختلفة من الكائنات. وتقدر أنواع النمل في العالم بما يقارب العشرة آلاف نوع يعيش أغلبها في المناطق المدارية. لكن النمل يتواجد في كل النظم الإيكولوجية في العالم، بل إنه يمثل النوع السائد عدديًّا وبيئيًّا بين اللافقاريات الرئيسة حول العالم. أما إيلاف النمل أو ما يطلق عليه علميًّا “الميرمكوفيلي” (Myrmecophily)، فهي تلك الحالة من العلاقة الإيجابية بين النمل ومجموعة متنوعة من الكائنات؛ كالنباتات والمفصليات والفطريات والقائمة في الأغلب على التعايش والمنفعة المتبادلة، لكنها قد تقوم أيضًا على التطفل.
قد تكون للكائنات أليفة النمل هذه، وظائف مختلفة في مساكن النمل المضيفة، فبعضها يقوم بمهمة تنظيف تلك المساكن من النفايات مثل النمل الميت واليرقات الميتة، كما توفر بعض تلك المساكن مكانًا لنمو بعض أنواع الفطريات، بينما يتغذى بعض الكائنات على الطعام المخزن من قبل النمل، ويقوم البعض الآخر بافتراس بيض النمل أو يرقاته أو العذارى، وعلى العكس من ذلك تقوم بعض تلك الكائنات بتوفير مصادر لغذاء النمل، وسبحان القائل: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ((الذاريات:49)، وكأن تلك الوظائف المتضادة لتلك الكائنات تقدم لنا نموذجًا لهذه الزوجية، كما أنها تقدم لنا نموذجًا للتوازن الطبيعي بين الكائنات في الكون فلا يطغى بعضها على بعض. وفي ذلك يقول الدكتور أحمد زكي: في عالم الأحياء، كل يقتل، وكل يأكل، وكل مقتول هو في دوره قاتل، وكل مأكول هو في دوره آكل، ولو عشب الأرض، فلا خلال العشب من الحياة. إنه قانون الحياة، ليس إلى إنكاره سبيل، وهو بين قوانين الحياة أصدق قانون وأشمل قانون، وهو القانون الذي إذا تعطل تعطلت معه الحياة كما نعرفها”. وصدق القائل سبحانه: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ(الحجر:19).
النمل والنبات
العلاقة ما بين النمل والنبات، من بين أنماط العلاقات المنتشرة جغرافيًّا على سطح الأرض، فبعض النباتات تقدم مأوى وغذاء للنمل في مقابل قيام النمل بحماية النبات أو نثر البذور أو الحد من منافسة النباتات الأخرى أو الإصحاح أو تقديم المكملات الغذائية. وهناك ثلاثة من أنماط العلاقات الشائعة بين النبات والنمل تعد هي الأكثر شيوعًا وأهمية.
• تجاويف الحماية (Domatia): وهي أشبه بمساكن سابقة التجهيز تقدمها النباتات للنمل، ومنها جذوع النبات وأعناقه وأشواكه ذات التجاويف، أو الأوراق المتكورة على نفسها. وقد تم تسجيل تكوّن تجاويف حماية مخصصة للنمل في أكثر من 100 جنس من النباتات الاستوائية على سبيل المثال.
• الأجسام الحزامية (Beltian Bodies): وهي تقدم مصادر للغذاء عالية الطاقة للنمل في شكل الكريات الغذائية المنتجة على أطراف وريقات النبات، وقد تم وصفها في 20 أسرة على الأقل من النبات.
• الغدد الرحيقية خارج الأزهار (Extrafloral Nectarians): تحدث في 66 أسرة على الأقل من النباتات كاسية البذور في كل من المناطق المعتدلة والاستوائية، وكذلك بعض السرخسيات، لكنها غائبة في جميع عاريات البذور والأكثر وفرة في المناطق الاستوائية. ولأن تلك الغدد تكون خارج الأزهار، فلا يتم توظيفها في التلقيح، ومن ثم يكون الغرض الأساسي منها هو الجذب والحفاظ على النمل، لكن العديد من النباتات تستطيع التحكم في تدفق الرحيق إلى تلك الغدد، بحيث يتغير ذلك التدفق وفق دورات يومية أو فصلية. ولأن الله وهب النمل القدرة على الاستجابة السريعة لتغير مستوى تدفق الرحيق إلى تلك الغدد، ربما تكون هذه هي الآلية التي يستحث بها النبات النمل على النشاط في أوقات ذروة نشاط الكائنات العشبية مما يقلل من كلفة إنتاج الرحيق. مجمل الناتج الغذائي لكل من الأجسام الحزامية والغدد الرحيقية خارج الأزهار، يمكن أن يمثل وجبة غذائية معتبرة للنمل، وفي بعض الحالات يمكنها أن تقدم كل الاحتياجات الغذائية لمستعمرة نمل كاملة.
في مقابل تقديم السكن والغذاء للنمل، يقوم النمل بحماية النبات من الحيوانات العشبية، ومن أفضل النماذج على علاقة تبادل المنافع والمصالح تلك بين النبات والنمل، هي التي تقدمها أشجار سنط البوق (Bullhorn Acacias) والنمل المعروف باسم سودوميرمكس (Pseudomyrmex) في أمريكا الوسطى، وهي العلاقة التي درسها “دان جانزن” في ستينيات القرن العشرين، وقدم فيها الدليل العلمي على تقليل النمل لهجمات الحشرات الآكلة للنبات والحيوانات الثديية العشبية على ذلك النوع من أشجار السنط بشكل كبير، في مقابل تقديم تلك الأشجار لثلاثية التجاويف الحامية والأجسام الحزامية والغدد الرحيقية خارج الأزهار.
من بين الخدمات الأخرى التي يقدمها النمل للنبات، الخدمة الإصحاحية، حيث يحافظ بعض أنواع النمل على أسطح الأوراق نظيفة ومعافاة من الأمراض، كما تقدم الدفاع ضد مسببات الأمراض الفطرية، كذلك يشيع تقليم النمل للنباتات المتسلقة والكروم والنباتات الطفيلية عن النبات الذي يؤويها، بما يقلل المنافسة البينية بين النباتات على المساحة والضوء والمغذيات والماء. من بين الخدمات أيضًا، ما أثبتته الدراسات من علاقات غذائية متبادلة بين النمل والنبات، حيث أثبتت إحدى الدراسات أن 90% من النيتروجين في أشجار السيكروبيا (Cecropia Trees) ناتج من بقايا نمل الأزتيكا (Azteca) الذي يحصل في المقابل على 80% من احتياجاته من الكربون. وفي ضوء تلك الخدمات فإن إيلاف النبات للنمل يمكن أن يكون غاية في الإفادة لحياة النبات والنجاح البيئي(3)، فانظر -حفظك الله- إلى آثار رحمة الله، وقل “الحمد لله رب العالمين”.
(*) باحث وكاتب مصري.
الهوامش
(1) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، لطنطاوي جوهري، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ج1، ب ت، ص:4.
(2) أضواء على الأبحاث، Nature الطبعة العربية، 9 أكتوبر 2014.
(3) في سبيل موسوعة علمية، لأحمد زكي، دار الشروق، القاهرة، ب ت، ص:8.