تستهل مجلة حراء بهذا العدد عامها الثامن عشر. فهنيئًا لنا أسرة حراء كتّابًا وقراء وقائمين عليها، هذا العام الجديد. إن من عرف مجال الفكر والنشر في عالمنا الإسلامي، وخبر تقلباته، وعايش تحدياته عن كثب، يدرك مدى صعوبة الثبات والاستمرار في هذا المجال. فقد يكون قدح الشرارة الأولى سهلاً، وقد تنتشي طربًا وتمتلئ فخرًا عندما تجد نفسك تصدر عددًا بعد آخر وتنتقل من عام إلى عام آخر، لكنك لن تفتأ أن تشعر بالشيخوخة بعد حين. هكذا نحن، وهكذا مشاريعنا كمسلمين، تنطلق بحماس متقد يحسبه الناظر لا يخمد أبدًا، لكنك تصدم بعد أمد قريب بآثار التعب والهرم وقد دبّت في أوصال الجسم مبكرًا تأكله ببطء وتؤدة، فإذا به يترنح ثم يهوي في وديان الفناء.
والصدقَ نقول، لم تكن رحلة حراء حتى هذا العدد سهلة. فقد عصفت عواصف عديدة من حولها كادت تسقطها، لكنها ثبتت. وقد تقاذفتها أمواج هائلة كالجبال كادت تغرقها، لكنها عرفت كيف تتجاوزها. إنه الإيمان بالرسالة ظل يشع في أحشائها، والأمل الذي ظل يشحذ عزيمتها. إنه الإيمان بالنفَس الطويل، لأن الرحلات الطويلة لا تكتمل إلا لأصحاب الأنفاس الطويلة. والنفس الطويل لا يمتلكه إلا الحكماء. إنهم كتّاب حراء الذين لم يفتؤوا يمدونها برحيق أرواحهم وبريق أفكارهم. إنهم قراء حراء الذين ظلوا أوفياء لها، ملحين على السؤال عنها كلما تأخرت، معبرين عن قلقهم كلما أبطأت، مشجعين لها على المثابرة كلما لمسوا فيها شيئًا من ضعف. إنهم فريق حراء الأبرار، ثلة من الأبطال ثبتوا على “تلة الرماة” لم يفارقوها، لأنهم أدركوا حق الإدراك أن الراية ساقطة لا محالة إن تركوا ربوة النور تلك. إنهم حفنة من المحررين والمصممين والموزعين الأوفياء. فالشكر لله أن سخر لـ”حراء” هذه الكوكبة من رجال الوفاء، طوبى لها بهذه الرفقة الطيبة، وبشرى لها بمستقبل أكثر نضارة وإشراقًا.
لقد تعلمت حراء خلال تلك السنين المنصرمة حكمة الحياة، خبرت تقلبات الدهر، أدركت مواطن الخطر وكوامن المهالك، وعرفت كيف تجد الطريق مهما ادلهمّت الآفاق واختلطت السبل. باختصار عرفت كيف تمد من عمرها، تبقى فتية، وتمخر عباب الزمان إلى مستقبل ينبض بالحياة والعطاء.
هذا، وتتحفنا مجلة حراء -كما عودتنا- في هذا العدد، بمائدة فكرية شهية شارك في تشكيلها كوكبة فريدة من العلماء والمفكرين والأدباء من شتى البلدان العربية والإسلامية. وهي وجبة دسمة، لا شك في ذلك، تحتاج إلى تأنّ وروية في القراءة لهضم معانيها بعمق، والإفادة منها بحق، بدءًا من المقال الرئيس للعالم والمفكر الألمعي “فتح الله كولن”، إلى المقالات الأخرى في العلوم والفكر والتربية والأدب والثقافة. إنها وجبة فيها ما تَسعَد به العقول وتَطرَب له القلوب.
هذا، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.