لماذا تعود الأوبئة من جديد رغم استخدام المضادات الحيوية أو اللقاحات أو كليهما؟ ولماذا تعود مع التقدم المذهل في استخدام عناصر الأمان الحيوي والكشف المبكر لهذه الأوبئة؟ أين تختفى مسببات الأوبئة حتى تعود ثانية في صورة متحورة تضلل بها جهاز المناعة؟ كيف يمكن الحد من انتشارها؟ وهل الصورة الجديدة التي يظهر به مسبب الوباء أشد فتكًا بالبشر أم أقلّ خطرًا عليهم؟
لقد انتشرت الأوبئة على اختلاف أنواعها ومسبباتها المرضية، على مستوى العالم، سواء في السنين قبل الميلاد أو في السنين بعد الميلاد، وما تم حسره من هذه الأوبئة هو قليل القليل. وهناك الكثير من مثل هذه الأوبئة لم يسجل، وذلك لقلة الوسائل المؤدية إلى ذلك في العالم القديم في كثير من دول العالم وحضاراته القديمة. إلا أن بعض الحضارات -مثل حضارة المصريين- سجلت بعض من هذه الأوبئة ونقشت أعراضها الإكلينيكية على جدران المعابد، كما حدث في وباءي الجدري وشلل الأطفال؛ حيث تم نقش أعراض المرض في لوحة حجرية بمعبد “سبتاح”، عليها صورة رجل عنده ضمور في عضلات ساقه اليمنى، مما يشير إلى إصابته بشلل الأطفال.
وباء الطاعون
ولقد ذكر “أريللي كوزولوف” في كتابه “الطاعون في منطقة أمنحتب الثالث”، أن الطاعون اجتاح المصريين في سنة 1650-1550 قبل الميلاد، وفي عام 541م انتشر الطاعون من مصر إلى الإمبراطورية البيزنطية؛ لاستيرادها الحبوب من مصر، ثم انتشر إلى وسط وجنوب أسيا، وشمال أفريقيا، وشمال وجنوب أوروبا، وأنه قتل 100 مليون شخص في العالم. وذكر بعض المؤرخين أن الطاعون أطاح من 50-60% من سكان العالم بين عامي 541-700م، وأطاح بهذه الإمبراطورية لأن الإمبراطور “جوستنيان” مات بسببه، وقد سمي هذا الطاعون بـ”طاعون جوستنيان” . وفي سنة 639م ظهر طاعون من النوع الدملي انتشر في مدينة “عمواس” بفلسطين، وانتشر منها على الشام وقتل أكثر من 25.000 شخص. وفي الفترة ما بين 1300- 1350م ظهر في دول أوروبا والبحر المتوسط، وقتل من إنجلترا وحدها حوالي 4-7 مليون شخص، كما قتل من الأوروبيين 30-60% أي حوالي 25-50 مليون إنسان، وقلل عدد سكان العالم من 450 مليون شخص، فسمي بـ”الموت الأسود” أو “الطاعون الأسود”.
وفي الفترة ما بين 1647-1652م، ظهر الطاعون الأكبر في “Seville”، وفي 1665- 1666م ظهر في لندن وقتل فيها أكثر من 100.000 (أي 20% من سكانها). وفي فرنسا بين عامي 1720-1722م، ظهر الطاعون الأكبر في “مارسيليا”، وقتل أكثر من 100.000 نسمة من سكانها.
وظهر الوباء الثالث من الطاعون الدملي بين عامي 1855-1950م؛ بدأ في الصين، وانتشر في الدول المجاورة لها، واستمر حتى عام 1950م، وخمد بعد أن وصل عدد الوفيات إلى 200 نسمة في اليوم على مستوى العالم، وقتل أكثر من 12 مليونًا في الصين والهند.
وباء الإنفلونزا
وأما عن أوبئة الإنفلونزا، فإن الطبيب اليوناني “هيبوقراط”، هو أول من وصف الأنفلونزا في عام 412 قبل الميلاد. وأول جائحة الأنفلونزا التي تم تسجيلها كان في عام 1580م، ومنذ ذلك الحين وقعت جوائح الأنفلونزا كلّ 10 سنوات أو 30 عامًا. كما انتقل هذا الوباء من أوروبا إلى أمريكا عام 1493م، وقتل 90% من السكان الأصليين في أمريكا، حيث كانت أجسامهم خالية تمامًا من المناعة ضد هذا الفيروس.
وأثناء الحرب العالمية الأولى (1918-1919م) اجتاح العالم فيروس الإنفلونزا الإسبانية، وأصيب حوالي 500 مليون إنسان من هذا الوباء، وقدِّر عدد الوفيات من 20 إلى 100 مليون فرد في العالم. وسمي هذا الفيروس بـ”الإنفلونزا الإسبانية”؛ لأن إسبانيا هي التي أعلنت عنه، وكانت دولة غير مشتركة في هذه الحرب، ولم تعلن أي دولة متحاربة عنه مخافة بث الرعب والذعر في الجنود المحاربين وتضييع معنوياتهم في القتال.
وفي أبريل 2009م انتشر فيروس إنفلونزا الخنازير في جميع دول وقارات العالم، إلا أن حدته ما زالت ضعيفة، وذلك مقارنة بالأوبئة التي سبقته. وقدِّرت الإصابات 1.205.434، والوفيات حتى 23 نوفمبر 2009م وصلت إلى 12.723 نسمة.
وباء الكوليرا
وظهر أول وباء للكوليرا بين عامي 1816-1826م، واقتصر على شبه القارة الهندية. بدأ انتشار هذا الوباء في البنغال، ثم انتشر في مختلف أنحاء الهند مع حلول عام 1820م. وقد لقي حوالي عشرة آلاف من القوات البريطانية، وعدد لا يحصى من الهنود مصرعهم خلال هذا الوباء. وظهر في الصين وإندونيسيا، كما تقدر حالات الوفاة في الهند بين عامي 1817-1860م نحو 15 مليون شخص.
وعاود المرض ظهوره في الوباء الثاني بين عامي 1829-1851م، ووصل إلى روسيا والمجر وألمانيا في عام 1831م، وإلى لندن وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية عام 1832م. وتقدر الخسائر من هذا الوباء في المملكة المتحدة أكثر من 55.000 شخص. كما وصل عدد الوفيات في الهند وحدها إلى 23 مليون فرد، والوفيات في روسيا في نفس الوقت تزيد عن مليوني فرد.
وظهر الوباء الثالث من الكوليرا في الفترة 1852-1860م في شرق أندونيسيا، كما غزت الصين في وقت لاحق، واليابان في عام 1854م، والفلبين في عام 1858م، وكوريا في عام 1859م. وفي عام 1859م تفشى في ولاية البنغال مرة أخرى، مما أدى إلى انتقاله إلى إيران، والعراق، جزيرة العرب، وروسيا. وظهر وباء الكوليرا الرابع والخامس والسادس في أعوام مختلفة، أدى إلى وفاة مئات الآلاف من الناس. كما ظهر هذا الوباء مرة أخرى في جنوب أفريقيا من عام 2008م إلى 2009م مع 96.591 حالة إصابة، ووفاة 4201 نسمة، حسب تسجيل منظمة الصحة العالمية.
وباء الإيبولا
ووباء حمى الإيبولا النزفية، مرض فيروسي حاد، يتميز غالبًا بإصابة الفرد بالحمى، والوهن الشديد، والآلام في العضلات والصداع، والتهاب الحلق، ومن ثم التقيؤ والإسهال، وظهور طفح جلدي، واختلال في وظائف الكلى والكبد، والإصابة في بعض الحالات بنزيف داخلي وخارجي على حد سواء. وتتفاوت نسبة الوفيات من فاشية إلى أخرى بمتوسط 50%. وتندلع أساسًا فاشيات حمى الإيبولا النزفية، في القرى النائية الواقعة في وسط أفريقيا وغربها، بالقرب من الغابات الاستوائية المطيرة.
وفي عام 1976م ظهرت أولى فاشياته في آن معًا في كل من نزارا، والسودان، ويامبوكو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد حدثت الفاشية الأخيرة في قرية تقع على مقربة من نهر إيبولا الذي اكتسب المرض اسمه منه. وقد أعلنت وزارة الدفاع الإسبانية، أن إسبانيا أصبحت ثاني دولة غربية تنقل إلى أراضيها مريضًا مصابًا بالوباء من غرب أفريقيا، كما ظهرت حالة في أمريكا. وأعلنت منظمة الصحة العالمية أن عدد الوفيات جراء تفشي فيروس “الإيبولا” في ثلاث دول -هي الأكثر تضررًا في غرب أفريقيا- حتى السنوات الأخيرة وصل إلى 6583 شخصًا. وأظهر آخر تحديث للبيانات على موقع المنظمة على الإنترنت، أن 18.188 حالة إصابة سجلت في الدول الثلاث في أسوأ تفش معروف للمرض.
وبمناقشة بعض الحقائق العلمية المذكورة هنا نجد الآتى:
لقد أيقن العالم أن الوباء رجز (أي عذاب) على الأمم، من حيث كثرة عدد الإصابات والوفيات والخسائر الاقتصادية، وإرباك الشعوب والدول. وله تأثير ضار على التجارة العالمية، وقطاع السياحة العالمية. لو نظرنا إلى الخسائر البشرية التي أصابت الناس من جراء بعض الأوبئة، فنجد أن الذين ماتوا من أوبئة الطاعون يقدّر بأكثر من 200 مليون إنسان، ومن أوبئة الإنفلونزا بأكثر من 120 مليون شخص، ومن أوبئة الكوليرا بأكثر من 100 مليون فرد.. هذا بخلاف الأوبئة الأخرى التي أصابت البشرية، مثل وباء شلل الأطفال، والحصبة، والملاريا، والإيبولا، والأيدز الذي حصد وحده حتى الآن 25 مليون إنسان من سكان العالم.
هذا بخلاف الخسائر الاقتصادية الناجمة عن نقص الأيدى العاملة (سواء بالموت أو بالإصابة من الوباء)، والأموال التي استخدمت في دفن الموتى، والمقابر الجماعية، والأموال التي استخدمت في العلاج، والأموال التي استخدمت في تطهير الأماكن والمستشفيات من جراء هذه الأوبئة، مما يؤثر بالسلب على الناتج الإجمالي للعالم.
ولنا أن نتسائل لماذا تتجدد الأوبئة ويبقى منها في الأرض شيء؟ وأين بقاؤها؟
الرسول صلى الله عليه وسلم يبيّن صفات الوباء
والعجب العجاب في مجال الأوبئة، أن يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم ويجيب على هذه الأسئلة وغيرها، ويبيّن صفات الوباء، وتواجده وانتشاره، وعودته، وزمن نزوله، والطريق الأمثل للحد من انتشاره، من خلال الحجر الصحي. وكل هذه الإشارات منه صلى الله عليه وسلم في وقت لم تكن فيه أدوات العلم متوفرة، تؤكد أن كلامه وحي من الله عز وجل، ورسالته حقّ، كما تعلن أن الإسلام هو دين العلم والعمل على حد سواء.
وفي حديثين صحيحين له صلى الله عليه وسلم مرتبطين ببعضهما في وحدة الموضوع؛ وهي كيفية انتشار الأوبئة وخلودها في الطبيعة، وبيان طرق الحد من انتشارها والوقاية منها.
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام أحمد واللفظ له: عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الوباء رجزٌ أهلك اللهُ به الأممَ قبلكم وقد بقي منه في الأرض شيء يجيء أحيانًا ويذهب أحيانًا، فإذا وقع بأرضٍ فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرضٍ فلا تأتوها”؛ وفي هذا الحديث تكلم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم عن وبائية المرض، وأن الوباء عذاب أهلك الله به الأمم من قبل، وأنه يخلد في الأرض، وأنه يجيء أحيانًا ويذهب أحيانًا، كما أشار إلى بيان كيفية الوقاية منه بالحجر الصحي منذ أكثر من 1437 سنة!
ومن خلال دراسة الأوبئة وتحليل بياناتها، تبينت هذه الحقائق العلمية:
إن الوباء عذاب للنفس والأهل، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي تنجم عنه، وأنه يصيب الإنسان ومعه الحيوان أو الطير، وأنه لا يختفي، بل يذهب ويجيء بسبب تحور الميكروبات المسببة للوباء، وبسبب اختزانها في عوائل أخرى؛ كالحشرات، والقوارض، والزواحف، والبرمائيات، والحيوانات البرية.. وأن هذه الأوبئة تظهر في صورة موجات، ولكي يتم الحد من انتشارها، لا بد من الحجر الصحي. وهذه الحقائق العلمية الدقيقة، قد بيّنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور أعلاه.
وفي الحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم: عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “غطّوا الإناء وأوْكُوا السِّقاءَ؛ فإن في السنَة ليلةً يَنزل فيها وباءٌ لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاءٌ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلى نزل فيه من ذلك الوباء”؛ وفي هذا الحديث بيان ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية انتشار الأوبئة عن طريق الهواء، وأن الوباء يسببه ميكروب يلوث الهواء والماء والغذاء، وأن الوباء له موعد في فصل من فصول السنة ينزل بقدر الله في ليلة مقدَّرة، وكيفية الوقاية منه ومنع انتشاره.
وقد ثبت في القرن العشرين، أن الأوبئة تسببها الميكروبات، وهي تنتشر بين الناس، كما تنتشر في الحيوان أو الطير -في نفس الوقت- عن طريق تلوث الهواء والماء والغذاء.. منها ما ينتشر في فصل الصيف كالكوليرا، والتيفود، ومنها ما ينتشر في فصل الشتاء كالإنفلونزا، وأن منع انتشار الأوبئة هو بمنع أسبابها من خلال منع تلوث الماء والغذاء، ومنع انتشارها فى الهواء.
إن هذه الحقائق العلمية الدقيقة قد بينها النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ 1437 سنة، ولم تكن أدوات علم اكتشاف الميكروبات -ومنها البكتيريا والفيروسات- متوفرة في ذلك الزمان، وفي مكان مهد الرسالة، سواء في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، ولم تكن موجودة حتى في أعظم إمبراطوريتين في تلك الفترة وهما الفرس والروم. فكيف يتأتى لنبيٍّ أميٍّ ليس عنده من هذه العلوم شيء، ولا كانت متواجدة في زمانه، أن يتكلم عن الوباء، ونزوله، وكيفية انتشاره، وطرق الوقاية منه، وأنه ينتشر في فترة محددة من فصول السنَة!؟
إذن الوبائيات تجيء وتستمر في انتشارها لمدة أعوام، ثم تختفي أعوامًا أخرى، ثم تعود وتنتشر لمدة أعوام، ثم تختفي أعوامًا أخرى.. وهذا الأمر يتكرر لمدة قرون طويلة والوباء على نفس الوتيرة.
والوقاية من الوباء لا تتم إلا عن طريق الحجر الصحي، وأول من فرضه هو النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء؛ حيث أمر الصحابة الكرام بعدم خروجهم من الأرض الموبوءة، وأضاف نقطة أخرى في عدم انتشار المرض والمحافظة على الأصحاء بعدم تعرضه له، فلا يدخلوا الأرض الموبوءة. وكل هذه الأشياء المستفادة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هي من مخاض العلوم الحديثة، وكل هذا يدل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم.
(*) كلية الطب البيطري، جامعة بني سويف / مصر.