(قصة قصيرة)
اقتربت الأستاذة من إنهاء الحصة، حينها طلبتْ من التلاميذ أن يكون واجب اليوم موضوع تعبير بعنوان: للحرية ثمن غالٍ.
كان الموضوع صعبًا على تلاميذ المرحلة الابتدائية، فكتبت لهم بعض الأفكار كي يستعينوا بها في هذا الموضع، وقالت لهم: تخيلوا، واعتمدوا على الخيال، حلقوا وأبدعوا ليكون إنتاجكم من عقلكم أنتم دون مساعدة أولياء الأمور. دق الجرس، وانصرف التلاميذ، وفي صباح اليوم التالي حضر التلاميذ، فطلبت منهم المعلمة تقديم أعمالهم، لترى كيف عبر كل تلميذ عن الموضوع؟
بدأت المعلمة تنادي على التلاميذ بانتظام، كانت الموضوعات مختلفة من تلميذ لآخر؛ عبر التلاميذ عن أفكارهم في حدود الموضوع إلا تلميذًا واحدًا رفض تقديم عمله، لم يكن في مقدور المعلمة معرفته
إلا عندما سخر التلاميذ في الفصل منه، فأخذوا يعيرونه؛ انتبهت المعلمة، وشاهدت زحام التلاميذ حول هذا التلميذ الذي دائمًا ما كانت تنعته بالكسول والأبله، ذهبت مسرعة لتفض الخناق الحادث في آخر الفصل حوله، واستخلصته التلميذ من بين أيادي الضباع المتنمرة، أخذته به إلى مكتبها، وسألته: ماذا يحدث؟ أين واجبك؟
كانت دموع التلميذ ما زالت تعبر بطيئة من وجنتيه التي غلب عليها اللون الأصفر، هدّأت المعلمة من روع الطفل الحابس شهيقه و زفيره خوفًا من انتقام مفاجئ من معاملته، شعرت المعلمة كم يعاني هذا الطفل، وأخذته خارج الفصل، عبرت به الردهة الطويلة، وعلى الجانبين كانت عيون التلاميذ سهامًا مصوبة في قلب هذا التلميذ البريء.
عند استراحة المدرسين قالت له: ما لك تبكي؟
كان السؤال غامضًا رغم وضوح كلماته، يحمل في ثناياه شوائب صعب إزالتها؛ نكس التلميذ رأسه في حسرة كأنه يحمل على رأسه كوكب الأرض.
مالت في أسف لتنظر إلى عيون التلميذ، ماذا أصابها؟ حاولت أن تناوش الصبي بكلمات مزاح ومحبة، لكن دون جدوى، قالت له: أين الواجب يا تلميذي الصغير؟
مد التلميذ دفتره، ورفع يده ليحمي هامته، وانسل للوراء خلسة خطوات ليردع أي هجوم مفاجئ. قلبت المعلمة صفحات الكراسة، لم يكن فيه كلمة واحدة. أين موضوع التعبير؟ هكذا سألت تلميذها بابتسامة رقيقة شجعت التلميذ أن يتقدم مرة أخرى الخطوات التي تأخرها من قبل، فتح الصفحة على موضوع التعبير، دققت المعلمة أكثر وأكثر وقد أخذها الاندهاش، فلم تمالك المعلمة مرة أخرى، وقالت: أين موضوع التعبير يا بني.
أشار بأصابعه على نفس الصفحة وقد انسحب مرة أخرى تلك الخطوات، صوت عالٍ جاء من بعيد عبر النافذة يقول: “انظري” بلغة أعجمية غير مفهومة، نظرت المعلمة في الصفحة فلم تشاهد شيئًا، جمود كامل أصاب المعلمة، وشعرت برعشة تجهل مصدرها؛ صوت غريب و صفحة فارغة و تلميذ باكٍ، وهي مصممة على إعطاء علامة لهذا التلميذ غريب الأطوار كما تراه هي.
قالت له: اشرح بصوتك؛ ماذا كتبت؟ فأنا لا أرى شيئًا.
تقدم التلميذ، وأمسك كراسته، وقال لها: انظري
قالت له: إلام أنظر؟
كان الوقت ظهرًا، والشمس مشرقة بقوة؛ وضع التلميذ الكراسة على سطح المكتب، وقال لها: هذا هو الموضوع. ركزت المعلمة أكثر في الصفحة البيضاء، وجدت رسمًا باهتًا، سماء صافية، ونجومًا تعبر وسط السماء، وهناك عصفور مختنق في وسط الفضاء الواسع وهو يحاول جاهدًا التخلص من براثن شبكة هلامية شفافة، وهناك طيور كثيرة تعبر بقوة وضخامة،
أجنحتها هذا الفضاء الكوني، وتضرب بجناحيها كل شيء للتعبير وسط الضباب، وهذا العصفور ما زال محجوزًا رهن هذه الشبكة الهلامية، ومع الصراع المستديم كان يتخلص شيئًا فشيء من هذه الشبكة، وبينما يحاول الخروج كسرت رجله، لكن العصفور هرب سعيدًا رغم الألم الناتج من رجله المكسورة
تأملت المعلمة الموضوع المرسوم على جبين التلميذ الصغير الذي يحاول هو الآخر أن يفوز بالحرية، لكن ما الذي سيخسره لأجل الحرية، وقد أجابها التلميذ في هدوء: صعب عليّ أن أفوز هنا بالحرية مهما كلفني الثمن، لكنني سوف أنعم بالحرية محلقًا في الخيال.
اهتزت المعلمة قائلة: لست وحدك.