يرتكز المنظور القرآني لإصلاح العقائد والأفعال على منهجية متكاملة الرؤى مترابطة البنى، تنتظم وفق ثلاثة أبعاد شاملة تجسد حقيقة النفس البشرية، وهي العقل، والسلوك، والغريزة (العاطفة). فالمتأمل لآيْ القرآن الكريم يلاحظ أنها تستهدف بمجموعها البياني والتشريعي والمقاصدي، تنمية هذه الأبعاد التي عليها مدار صلاح الإنسان أو فساده. وهي ترتبط فيما بينها بصفة تلازمية تفاعلية، إذ لا يمكن تغليب أو إهمال إحداها على حساب الأخرى، حيث تنسجم في توازن واعتدال بعيدًا عن شانئة الإفراط أو التفريط، وذلك لأن:
أ- الإفراط في الشحن العاطفي وتجييش الأحاسيس والانفعالات، يحيد بالعقل عن الاتزان الفكري ورجاحة الإدراك؛ فتتعطل قدراته التحليلية والاستنباطية بفعل الثورة العاطفية،كما قد يتردى السلوك في مزالق الميوعة أو التطرف.
بـ- كما أن الغلو في التصوف والمكاشفات الروحية والزهد بداعي تقويم السلوك وتزكية الأنفس، قد يجني على جانب كبير من الأحاسيس والأذواق السليمة، ويصيب العقل بالبلادة والتكلس والتبعية العمياء من المريد لشيخه.
جـ- كما أن التحيز المفرط للنظر العقلي المحض وانتهاج مسلك المناطقة وغلاة العقلانيين والفلاسفة، في تبرير جميع الظواهر والأحكام الكونية والشرعية بالمنطق والاحتكام التعسفي الأحادي للعقل، وصولاً إلى إنكار كل ما يعارضه من الغيب المقرر نصًّا، والأحكام الشرعية القطعية ثبوتًا ودلالةً، بحجة عدم استقامتها مع مسلمات المنطق.. فمثل هذا النسق الفكري سيفضي حتمًا إلى منازعة الخالق في أمره وخلقه، وهو القائل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ(الأعراف:54)، كما قد يوقع صاحبه في التناقض العقلي من حيث ابتغى الفرار منه.
إن القرآن الكريم يتبنى منهجًا وسطيًّا منسجمًا مع طبيعة الفطرة الإنسانية ومتطلبات الواقع ومقتضيات الفكر الخلاق المتجدد، يمكن أن نصطلح عليه بـ”التوازن الإستراتيجي” بين ثلاثية العقل، السلوك، الغريزة، وتبيان ذلك في ما يلي:
أولاً: إثارة العقل
فلإصلاح العقل شدد القرآن على ضرورة التفكير والنظر التأملي في الآيات الكونية، التي استودع الله فيها أسرار إعجازه، وما استكنَّ بداخلها من قوانين ونواميس ناظمة للعلاقات بين الأسباب والنتائج، وما يتبع ذلك من تحقق مصالح الإنسان وانتظام الغايات الكلية للاستخلاف. فقد دعا القرآن في مواضع عدة، إلى إعمال العقل واستثارته بالبحث والسؤال والاستشكال، كقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(يوسف:2)، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(الذاريات-21).
فالقرآن يثير آلة التفكير في العقل بلفت النظر إلى مظاهر إعجاز الله وعظمته في الخلق، ليضع الإنسان أمام إشكالات وجودية ومظاهر كونية تفرض عليه البحث عن علاقاتها السببية، والتساؤلَ عن أصل نشأتها ونواميسها وقوانينها السننية، ومن هنا تنشأ المعرفة العلمية المقترنة بالمعرفة الإيمانية التوحيدية. ومن أساليب القرآن في إثارة العقل وتنميته:
1-الأمر بالتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وتقليب النظر في الظواهر الكونية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(البقرة:164).
2-الحث على طلب العلم والقراءة: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا(الإسراء:114).
3-الأمر بالسؤال وتحري المعرفة من مصادرها: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(النحل:43).
4-النهي عن الخَرْص واتباع الظنون والأساطير: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(الأنعام:6). والخَرْصُ الكذب. فالانشغال بهذه الآفات، مدعاة لتعطيل القدرات العقلية عن التأمل والادّكار.
5-النهي عن تعطيل التفكير والتحجير على العقل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(محمد:24)؛ والقلوب هنا بمعنى العقول، فوَصَف العقول التي لا تفكر؛ كالمغلقة التي لا ينفذ إليها نور الوعي والعلم. والآية جاءت في سياق الاستفهام الانكاري.
6-تحريم التقليد الأعمى المعطل لمادة الإبداع: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(البقرة:170).
7-الأمر بالتحري والاستبيان، وعدم بناء أي قناعة أو حكم على أساس الظنون: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا(النجم-28).
8- مدح المتفكرين والثناء على فعل التأمل، باعتباره من أجل الطاعات: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(آل عمران-191).
9-التذكير بعاقبة من عطل عقله وحسرته في الآخرة: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ(الملك:10-11)، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(الأعراف-179)
10- استعمال الاستدلال العقلي والحجاجي في مجادلة المشركين. ويتجلى ذلك في مناقشات الأنبياء مع أممهم، ومن أبرزها مناقشات سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع النمرود. وفي حادثة تحطيم الأصنام، وحين استدل بالشمس والقمر والكوكب، قال تعالى: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(البقرة-258).
القرآن يثير آلة التفكير في العقل بلفت النظر إلى مظاهر إعجاز الله وعظمته في الخلق، ليضع الإنسان أمام إشكالات وجودية ومظاهر كونية تفرض عليه البحث عن علاقاتها السببية، والتساؤلَ عن أصل نشأتها ونواميسها وقوانينها السننية.
ثانيًا: تقويم السلوك
المقصود بالسلوك هنا الأفعال والأقوال الإرادية التي يزاولها الإنسان في علاقته مع الخالق أو المخلوقين، وقد استهدفها القرآن بالتعديل والتقويم وفق درجات الأحكام الشرعية الخمس: الواجب، المستحب، المحرم، المكروه، المباح. ولو نتأمل في المقاصد العميقة للأحكام التشريعية العملية، سواء في العبادات أو المعاملات المالية والأسرية والاجتماعية والأخلاقية، سندرك أنها وضعت على نسق متكامل يستهدف البناء السوي لسلوك المسلم من منظور المصلحة القائمة على جلب المنفعة أو دفع المضرة أو الجمع بينهما.
1-الصلاة بأحكامها وشروطها وأوقاتها وأركانها تهدف لإرساء سلوكات وقيم إيجابية، تَنْحُو بالمسلم نحو الاعتدال والارتقاء كالانضباط، والاتحاد في تنظيم الصفوف، واحترام الوقت، والمداومة على الطهارة، والصبر، واجتناب الفحشاء والمنكر، إضافة إلى مقاصدها الروحية كالخشوع والتواضع والتسامح والعبودية لله تعالى.
2-أما الصوم بفرضه ونفله وأحكامه وحِكمه، فهو مدرسة لتهذيب النفس، وارتقاء الروح، وتعويدها الصبرَ، والشعورَ بمآسي المحتاجين، وإكساب الإنسان القدرة على التحكم في النفس وقيادتها لا العكس، وترك المباحات تقوية لعزيمتها في ترك المحرمات.
3-أما الزكاة والصدقات فتربي النفس على البذل والعطاء والإيثار واستشعار معاناة الناس والتكافل الاجتماعي، وتزكيتها من درن البخل والشح والاستئثار.
4-أما الحج والعمرة ففيهما تتجلى قيم التراحم، والتضحية، والمجاهدة، والانضباط الفردي والجماعي، والوحدة العضوية للمجتمع في زِيٍّ واحد ومسلك واحد وقول واحد، وذلك لإبراز أهمية التضافر والعمل الجماعي في تحدي الصعاب.
وهكذا لو دققنا النظر في مقاصد جميع الأحكام وتفاصيلها، فستتجلى لنا الحِكمُ العليَّة والمقاصد السَّنيَّة التي قد لا تتحقق في أي نظام آخر، ولهذا يقول الإمام الشاطبي-رحمه الله- في كتابه “الموافقات”: “والمعتمد إنما هو أنَّا استقْرَيْنا من الشريعة أنها وُضعتْ لمصالح العباد استقراءً لا يُنازَع فيه”. فما على المسلم في ذلك سوى الاجتهاد في الفهم والعمل.
ثالثا تهذيب العواطف والغرائز
العواطف هي قوة شعورية ذاتية تدفع الإنسان لاتخاذ سلوك أو قرار معين، سواء كان إيجابيًّا أو سلبيًّا، أما الغرائز فهي الرغبات التي جُبلت عليها النفس البشرية.
ويرتكز المنهج القرآني في تهذيب العواطف على تحقيق التوازن الانفعالي، من خلال الجمع بين مسلكَي التصفية والتحلية؛ فالتصفية من القيم والطبائع السلبية، والتحلية بالقيم والمكارم الإيجابية. ففي الوقت الذي ينهى القرآن عن الطبائع الذميمة كالخيانة والغش واليأس والرياء.. التي تولد اختلالاً في التفكير والسلوك، فإنه يرشد إلى المكارم النبيلة كالصدق والمحبة والتفاؤل والصبر والأمانة.. التي تولد اعتدالاً في التفكير والسلوك.
وفي باب الغرائز نجد القرآن يقرّ بفطريتها، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(آل عمران-14).
غير أنه يرشدنا إلى كيفية إشباعها بالطريق المشروع والمأجور معًا، فهو لا يهدف إلى إطفاء جذوتها بقدر ما يرمي إلى إنمائها في تربتها الملائمة، والارتقاء بها من درك الحيوانية إلى درج الإنسانية، ومن أمثلة ذلك:
1- غريزة حب المال والتملك: فقد أرشد إلى تنمية المال بالبيع والتجارات والشركات، وحرم اكتسابه بالربا والغش والسرقات.
2- غريزة حب النساء: فقد ندب إلى الزواج وتيسير طريقه، وحرم الزنا واتخاذ الأخدان.
3- غريزة حب السلطة: فقد ضبطها بالعدل والشورى وتولية الأكفاء، وحرم الاستبداد والطغيان والظلم.
4- غريزة حب الولد: فوضع الإطار الشرعي لتحقيقها وهو الزواج، ومنعها من جهة التبني والسّفاح لما عُلِمَ من مفاسدهما.
وفي سبيل تهذيب العواطف والغرائز وتحفيز النفس نحو العمل الصالح، يوظف القرآن منهجين متكاملين، هما الترغيب والترهيب أو الخوف والرجاء، مع تغليب جهة الرجاء والمحبة والطمع في رحمة الله، فيقول تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(المطففين:165)، ويتم ذلك وفق أسلوبين هما:
أ-بيان صفات الجنة وأهلها والترغيب فيها: كقوله تعالى: إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾(المطففين:22-25).
بـ-بيان صفات النار وأهلها والترهيب منها: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(الصافات:62-66).
إن النفس هي المسؤولة عن التوجيه الفكري والسلوكي والعاطفي للإنسان، وقد خاطبها القرآن باعتبارها كيانًا مستقلاًّ واعيًا فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(الفجر:27)، وهي تجمع بين الأبعاد الثلاث الآنفة، ولا صلاح للنفس إلا بمراجعة واعتدال ثلاثَتِها: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(الملك-23)، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(الإسراء-36).
(*) أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة محمد خيضر بسكرة / الجزائر.