هل يعمل الدماغ الإنساني بتلقائية ويتطور أداؤه بتقدم العمر؟ وهل من شأن المران الذهني أن يسمح للإنسان بامتلاك ناصية طاقات مبدعة، وينقله إلى مصاف العباقرة والمبدعين من أصحاب الإنجازات الكبرى؟ وهل يغفو الدماغ على طاقات مكتنزة تحتاج لما يطلق لها العنان؟
أثار الأطباء في بريطانيا دخول أحد المراهقين إلى المشفى بسبب إصابته بصداع مزمن، وعدم استطاعته النوم بشكل منتظم مع عدم قدرته النوم على جنبه.. أظهر الفحص الأولي أن الشاب من الطلبة اللامعين في مادة الرياضيات، كما أنه يتمتع بمعدل ذكاء يصل إلى ١٢٦ درجة، أي أعلى من أي متوسط للذكاء، غير أن بعض التفصيلات أثارت شكوك الطبيب المعالج، خاصة ضخامة الرأس.
كانت دهشة الأطباء كبيرة حين وجدوا أن رأس الصبي لا يحوي مادة دماغية إلا بشكل بسيط للغاية، وأن التجويف الدماغي كان مملوءًا بسائل غريب، والأنكى من ذلك أن دماغ المريض لم يكن يزن أكثر من ١٥٠ جرامًا، أي متوسط حجم المخ عند أي إنسان، ومع ذلك فإن الصبي لا يعاني من أي نقص في الوظائف الجسدية أو العاطفية أو اللغوية.
هذه القصة تؤكد أن قرارات الحياة الكبرى، وعمليات المسح البانورامية التي يقوم بها الإنسان لإدراك معنى حياته وأعماله، هي البوصلة التي لا غنى عنها، وإلا سقط الإنسان في مطيات التخبط و الغباء. من هنا جاءت فكرة الاحتياط الإستراتيجي التي تمثلها نسبة ٩٠٪ من المادة الدماغية. وقد تحدث العلماء والناس كثيرًا عن قابلية الدماغ الإنساني الضخمة، وعن قارته التي لم يتم حتى الآن اكتشاف جميع خصائصها. وقالوا إن البشر لا يستخدمون أكثر من عشر أدمغتهم، بل إن صحافيًّا سأل “ألبرت آينشتاين” يومًا عن سر عبقريته، فأجاب بأن الإنسان لا يستخدم عادة إلا ١٠٪ من خلايا دماغه العصبية. ومع غموض جواب آينشتاين، وما يحمله من إشارات على قدرته الفذة، فقد سرى بين الناس حديث متواتر عن إمكان اكتشاف طاقات غير مدشنة في هذا الجهاز العجيب.
أما حقيقة أمر الدماغ فتأتي على لسان جرّاحي المخ والأعصاب، الذين يؤكدون وجود ملايين العصبونات ونقاط الاشتباك العصبية التي تعيش في حالة ثبات ولم تتح لها فرصة العمل والإنتاج.. فلو أننا استطعنا تمرين هذه العصبونات، واكتشفنا طرق إيقاظها من رقادها، لامتلكنا قابليات فذة يحلم بها جميع بني البشر؛ كأن نستطيع قراءة أفكار الآخرين، أو أن نسيِّر الأشياء بمجرد النظر إليها.. فإن العقل الإنساني لا يُمرَّن على طريقة تربية العضلات بالجمباز ورفع الأثقال، ولكن ما جدوى وجود هذه النسبة العالية من مكونات الدماغ التي تعيش في حالة سبات؟
الطب الحديث وبالأخص فرع جراحة المخ، يتحدث عن إمكان إزالة جزء منه من دون الإضرار بالوظائف العليا لهذا العضو الخطير، لا بل إن أحد الجراحين حصل على جائزة نوبل، لمجهوداته الكبرى في تطوير أسلوب جراحة وإزالة الأجزاء التالفة من المخ.. وقبله أكد العديد من الجراحين الذين أشرفوا على استئصال جزء من دماغ قرد، نجاح تجربتهم، وقالوا إن القرد تحول بعد الجراحة إلى حيوان لطيف المعشر ودمث التصرفات.
علماء أنسجة الدماغ ينظرون اليوم إلى هذه الإنجازات السالفة بعين الشك والريبة، ويعتمدون في شكهم على حقيقة أن لا شيء خلق عبثًا، وأن أي خلية توجد في أي جسم حي -حتى وإن بدت وظيفتها غامضة وغير خاضعة للتفسير العقلاني- إنما تلعب في أبسط الأحوال دور الاحتياط الإستراتيجي، أو المحرك الغامض لعدد كبير من الوظائف التي لم يتم إلى اليوم التأكد من فحواها.
النوم على الظهر خطر!
يقول “ميشيل جوفيه” العالم الذي قضى زهاء أربعين سنة في تتبع ظواهر الدماغ: “إن ما يحدث للدماغ خلال فترة النوم، خاصة النوم المتناقض، وسمي متناقضًا لأن النوم يجمع عندها بين حالة السبات ويقظة العقل الباطن، وتعامله مع موجوداته المعرفية، وفيها يتوقف النشاط العضلي والحسي للجسد، بينما تبدأ الصور الذهنية بالبزوغ على شاشة وعي من نوع آخر، كما يحدث في الأحلام التي هي أيضًا قدرة خفية من قدرات الدماغ، وهي عالم غريب يستقي أدواته من الواقع، ويعد من المهارات التي يكتسبها الدماغ أثناء رحلة تطوره، بما يعني أيضًا أن مدى الحلم مرتبط بحجم مادة الدماغ الرمادية.
ويعتقد “جوفيه”، أن للنوم دورًا إصلاحيًّا في إعادة ترتيب الشخصية، ففي أثنائه تأخذ عصبونات الدماغ -التي يبلغ تعدادها زهاء ٥٠٠ مليار، ترتبط فيما بينها بمليون مليار نقطة اشتباك عصبي (Synapses)– باللجوء إلى أسلوب مغاير من النشاط (الخيال أو المخيلة)، ويحدث تفجر لفحوي هذه الصور في جسد خامد لا حراك فيه إلا من تلك الوظائف اللاإرادية. هذا يعني أن النوم عبارة عن ظاهرة حياتية قائمة بذاتها، وأنه منظومة متكاملة، ولأن كل منظومة تحمل بعدها الوظيفي، فإن للنوم -حتمًا- دورًا وظيفيًّا يصبّ في وظيفة الحياة الكبرى التي يعيشها الكائن.
إن منظومة النوم، لها بعدها الوظيفي الذى يجب على الكائن ضرورة الحفاظ على أدائها بشكل سليم؛ حتى لا تتعرض وظائف الجسم والدماغ لأية مخاطر، خاصة طريقة النوم والأوضاع التي يجب على الإنسان أن يتخذها عند خلوده إلى النوم. فقد أثبتت الدراسات أن صاحب الوزن الطبيعي لا يتعرض لمخاطر النوم على الظهر بدرجة كبيرة مثل الذي يعاني من زيادة الدهون في منطقة البطن، مما يحدد حركة الحجاب الحاجز مع انقباض الأغشية المبطنة للبلعوم، فيضيق ممر الهواء للرئتين ويؤدي إلى ظاهرة الشخير التي يعاني منها كثير من الناس في الحالات المتقدمة، قد يؤدي ذلك إلى توقف مؤقت للتنفس أثناء النوم. أما حالات العيوب الخلقية بالأنف أو التهابات الأنف المزمنة، التي تؤدي إلى انسداد كامل به، فإن النوم على الظهر يؤدي إلى نفس النتيجة السابقة، وهي ظاهرة الشخير التي هي عبارة عن صوت يصدر عن اهتزاز عضلات البلعوم أثناء النوم وتوقف التنفس، وهذه الحالة تنتج عن نقص الأوكسجين بالجسم أثناء النوم، مما يؤدي إلى استيقاظ المريض المفاجيء وحاجته إلى التنفس بالأكسجين.. لذا فإن النوم على الظهر يؤدي إلى الجوع للأكسجين نتيجة الترهل في الممرات الهوائية بالبلعوم أو الحنجرة أو انسداد الأنف.
النوم القصير أثناء العمل
إن عادة تناول الطعام قبل النوم، تشكل خطرًا كبيرًا على الشخص إذا اعتاد النوم على ظهره، بالإضافة إلى أن تناول الكحوليات والتدخين، والسمنة المفرطة، كلها تؤدي إلى ظاهرة الشخير، وربما يحدث توقف للتنفس أثناء النوم أو انقطاعه، مما يؤدي إلى عدم النوم المتواصل لفترة طويلة، فيظل الشخص في حالة قلق وأرق، وبالتالي يشعر بالخمول نهارًا، ويتعرض لنوبات الغفوة المفاجئة، ويصبح لديه قدرة محدودة على التركيز، مما يقلل من قدرته الإنتاجية ونسبة الأوكسجين في خلايا الجسم ومخه.
الخط العلاجي الأول والأبسط في هذه الحالة، هو إنقاص الوزن مع أهمية الإقلاع عن عادة تناول الأطعمة الدسمة ليلاً، لتصبح الوجبة الرئيسة ظهرًا، أو قبل الخلود إلى النوم بثلاث ساعات على الأقل، مع أهمية ممارسة الرياضة في الهواء الطلق، وضرورة تهوية غرفة النوم، والتعود على النوم على الجنب وليس على البطن أو الظهر.
الخطر الشديد الذى يمكن أن يسببه النوم على الظهر يتمثل في ارتفاع ضغط الدم، مما يجعل المريض لا يقدر على التنفس بسهولة فيتعرض بعد ذلك للخمول والغفوات المفاجئة نهارًا، إلا أنه في حالة حدوث إغفاءة بسيطة أثناء العمل تجدد الطاقة وتنشط العقل وتحسن المزاج، وتزداد القدرة على الإدراك، ويزول عن الشخص الإحساس بالإحباط.
هذا ما انتهت إليه دراسة جديدة تمت في أمريكا تقول، بأنه ربما ينبغي اعتبار النوم أثناء العمل، سلوكًا طيبًا وليس دربًا من دروب التكاسل أو الإهمال. وأظهرت الدراسة أن النوم الخفيف لمدة ٣٠ دقيقة أو ساعة خلال اليوم، يحافظ على النشاط الذهني عندما يكون العقل مثقلاً، وبدون إغفاءة تجديد الطاقة، فإن الكثير من المعلومات المتدفقة على عقل الموظف المشغول، يمكن أن تجهد الخلايا العصبية، وتؤدي إلى فقدان القدرة على التعلم أو التحصيل.
وقد تكشف في مرحلة سابقة، أن الإغفاءات خلال اليوم، التي تستغرق ساعة أو أقل، تحدث تحسنًا في الإدراك والقدرة على الإنتاج، كما تحدث تحسنًا في المزاج، خاصة في ظل ظروف الحرمان من النوم التي تتعرض لها النساء بسبب السهر مع الأطفال.
وفي دراسة أخرى، طلب العلماء في أمريكا من ١٢٩ طالبًا، القيام بسلسلة من الاختبارات المتعلقة بالتمييز البصري يتعين عليهم خلالها تمييز الحروف والأشكال فور ظهورها على شاشة للعرض، واستمر كل اختبار نحو ساعة، وتم تكراره أربع مرات في اليوم من أجل وضع الطلبة عمدًا تحت الضغط.. وعندما تم السماح لهم بإغفاءة بين الجلسات، تلاشى التراجع في الأداء، أو ربما انتهى تمامًا.. وأشارت المراحل المختلفة للتجربة، إلى أن النوم -وليس مجرد الاسترخاء والعين مغمضة- ضروري لإحداث تأثير استعادة النشاط. كما نوه الباحثون إلى أن إغفاءات تجديد الطاقة، أمر شائع بين الناس الذين تتعامل أدمغتهم مع كمٍّ كبير من المعلومات يوميًّا.
(*) باحثة وأكاديمية مصرية
(١) American Psychiatric Association, Diagnostic and Statistical Manual. 4th ed (DSM-IV) Washington, DC, APA (2020).
(٢) Beahrs JO: Dissociative identity disorder: Adaptive deception of self and others. Bull Am Acad Psychiatry Law 22;223-237,2018.
(٣) Bloch JP; Assessment and Treatment of Multiple Personality and Dissociativ Disorders. Sarasota, Professional Resource Press, 2018.