– أتسمعني، أم أنك وقفت في المنطقة الوسطى مثلي؟ تعبتُ كثيرًا من البكاء، ومن المناطق البينية التي أسكنها.. حائر بعد موتك يا أبتِ، لا أستطيع المواجهة، فأنا الولد الذي حظاه القدر ليكون مثلك، سعيدًا بكوني أشبهك.
نطقها وهو يمسح على وجهه.. أخرج مرآة صغيرة من جيبه ونظر فيها نظرة خاطفة، ثم دسها في جيبه.. كأنه لا يريد التحقق من ملامحه، هو فقط ينظر ليؤكد لنفسه أنه ليس قبيحًا كما يظنون.. فيترك سؤالاً يتردد صداه عاليًا ولا يسمعه إلا الموتى في سكونهم:
“لماذا أنا وحدي أسمر اللون؟ أخبرْتَني من قبل أن الرجال لا يعيبهم سوى الرجولة الناقصة، فلماذا يعيرني زملائي بلوني الداكن.. ليتك لم تمت وتركتني وحدي في هذا الظلام الذي أحاطني وصبغني بلونه.. أنا الحائر يا أبتِ، فهلاَّ عدت وأخذتني معك!”.
يناجيه في صمته المخيف:
“لماذا يصر الموتى على سكوتهم، ونرتاح نحن بالحديث إليهم؟ لماذا دائمًا يرتاح القلب لمن يبعد عنه بأميال من الصمت؟”.. يتردد صوته بين نفسه، فقد أجهده الحديثُ جهرًا.
أسند رأسه على قبر أبيه، شعر وكأن يدًا تربت على كتفه غاب مع دفئها:
– اقترب.. أنا دائمًا بجوارك.
– أخاف القرب! وممن أقترب؟ أنا لا أرى سوى نورًا.
– اقتربْ.. سترى كل شيء حين تقترب، حين تتركهم جميعًا وتقترب ستتذوق طعم النور.
– النور يرى لا يتذوق.
– حين تقترب ستتذوق طعمه، في القرب تتماهى الحواس.
– من أنت؟
– أنا الذي سمعك حين بكيت أباك ولم يرد عليك، أنا من أخبرته حكايتك دون قصد، أنا هنا لأمنحك نفحة من نور يبيض بها قلبك، فينعكس نوره على وجهك.
– حقًا؟! ستجعلني أبيض اللون.
– لا، سأجعلك نظيف القلب نقي الروح.
– هل هذا يكفي ليحبني الجميع؟
– هذا يكفي ليحبك الله.
اهتزت الأرض من تحته.. انتفض.. شعر وكأن جسده يمتلأ فتقترب الثياب على التمزق، يخاف، يصرخ، يجري، يلاحقه الكثيرون، تختفي صورهم، أشباح تحيط به.. يقرأ ما حفظه على يد أبيه.. تذوب الكلمات.. لا يتذكر سوى جملة “الله خبير بعباده، مطلع على سرائرهم”.. يتذكر غضبه حين وقف زميله في وجهه قائلاً: “فريقي يتكون من أصحاب البشرة البيضاء، وحدك الأسود في الفريق الآخر، سنسميه فريق الرجل الأسود”.
– ولماذا تسميه هذا الاسم؟
– لأنك اشتركت فيه، وأنت الأسود الوحيد بيننا.
– أقتربُ منه، أمسكُ ثيابه بيدي وأحكم قبضتي على ياقته.. أضغط على أسناني فتخرج الكلمات من بينها حادة:
– أنت اعترفت بلسانك الذي يستحق القطع برجولتي، ففريقك أبيض، أما فريقي فهو فريق الرجل، ولا رجل هنا سواي، سأترك اللعب مع الصبية وأذهب لأتحدث مع رجال يشبهونني.
غادر مدرسته رافع الرأس، يرونه من الخلف شامخًا، مهيبًا في تحديه.. يراه حارس المدرسة دامعًا تحفر القطرات مجراها، يجري فيجري خلفه، عند مفترق الطرق يختفى عنه.
بين الرجال بحث عن أخيه فلم يجده.. وحدهم الأموات لا يغيرون مكانهم، حين تطلبهم تجدهم، صامتون لكنهم قادرون على السماع.. يفيق من غيابه ليجده واقفًا أمامه، يمد يده، يطلب منه النهوض.. الرجال لا يتعثرون مهما انزلقت بهم الحياة.. يربت أخوه على كتفه ثم يضمه إليه، يذهب بعيدًا عن القبور، يحكي له عما رآه في غفوته.. تعلو ضحكاته المختلطة بالبكاء، ويردد مع أخيه: “لا يعيب الرجال سوى..”، لا تتبين الكلمات من ضحكهم العالي الذي يتردد صداه بين القبور.
(*) كاتبة وأديبة مصرية.