لا شك أن اللغة تعد مرآة الحياة لأية أمة من الأمم، تكشف عن مدى تطورها ورقيها، ولغتنا العربية التي نتحدث بها اليوم سادت الجزيرة العربية، ونطق بها عرب الجاهلية، وجرى لسانهم بأفصح القول بالسليقة، وبلغت اللغة العربية قبل نزول القرآن الكريم درجة كبيرة من الرقى والكمال.
ونزول القرآن الكريم باللغة العربية أمر في غاية الخطورة، فالقرآن الكريم كلام الله عز وجل ومعجزة نبيه صلى الله عليه وسلم، نزل بلغة قريش. وقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفصح ما تسموا إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة، ودقة أوضاعها، وإحكام نظامها، واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقيًّا محضًا في التركيب والتناسب بين أجراس الحروف، والملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت الذي يؤديه.
وإن عناية العرب بلغتهم في العصر الجاهلي كانت بدافع من العلاقات الاجتماعية والقبلية التي كانت ذات أثر كبير في اتساع الحفظ وكثرة الرواية، وأما بعد الإسلام فكان هناك خط آخر مواز للرواية أثر في الاهتمام باللغة العربية وروايتها، نعنى به رواية القرآن الكريم، والحديث الشريف.
أثر القرآن الكريم في اللغات الأخرى
لقد جاء القرآن الكريم ثورة فكرية لغوية استثار بأسلوبه البياني الرائع ومعاينته السامية عقول العرب، ودفع العلماء إلى الاهتمام بتفسير آياته وشرح غريبة، وتتبع اللغات التي جاء بها وتدوينها، ورواية شواهدها..
وشد الإسلام أقوامًا غير عرب إلى لغة العرب، وأسبغ على اللغة العربية فضل الانتشار والتوسع، وظهور عدد من العلماء لا يحصى من غير العرب نبغوا في لغة العرب وعلومها، فكانت اللغة العربية وسيلة لعلوم الدين، وذات صلة قوية بها، مما دفع المسلمين إلى تعلمها ومعرفة خصائصها يقول الرازي في كتابه (الزينة) تحت عنوان: حاجة المسلمين إلى معرفة لغة العرب: “ولولا ما بالناس من حاجة إلى معرفة لغة العرب والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، والأئمة الماضين، لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء ولعفا الدهر على آثارهم، ونسى الناس أيامهم، ولكن الحاجة بالمسلمين ماسة إلى تعلم اللغة العربية، ومعاني الألفاظ الغريبة في القرآن والحديث، والأحكام والسنن، وإذا كان الإسلام قد ظهر –بحمد الله– فى جميع أقطار الأرض، وأكثر أهل الإسلام هم عجم، وقد دعتهم الضرورة إلى تعلم لغة العرب إذا كانت الأحكام والسنن مبينة بلسان العرب.
نشأة علم اللغة وازدهار اللغة العربية
والحق أن الإسلام حقق للعرب واللغة العربية السيادة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فبفضله سادت اللغة العربية جميع الممالك التي فتحوها، وصارت لغة السياسة ولغة العلم، وساد الدين في أمصار الأرض، واعتنقه أهلها، وبفضل انتشار هذين العنصرين: اللغة والدين، تهيأت الأسباب لنشأة علم اللغة وازدهار اللغة العربية، وخطت الأمة الإسلامية في العصر الاسلامى خطوة جديدة في حياتها العقلية، وحركاتها العلمية وتطورت حياتها الفكرية والاجتماعية، ونهضت مراكز الحياة العقلية في أقاليم وأمصار الخلافة الإسلامية، وكانت أهمها في ذلك العصر مكة والمدينة فى الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، والفسطاط في مصر، فساهمت تلك المراكز في ازدهار الحركة العلمية والأدب والفن، ومما لا شك فيه أن علم اللغة نشأ وتطور وازدهر بفضل القرآن الكريم، فقد قامت حركة علمية نشيطة لحفظ القرآن من الخطأ في تلاوته، فنشط العلماء وشجعهم الخلفاء والأمراء، وازدهر علم اللغة الذي كان يهدف إلى حفظ اللغة من الخلل والفساد من جهة، ولصون لغة القرآن وتفسير غريبة من جهة ثانية، فأكثر العلماء من رواية اللغة والأشعار، ودققوا فيها وتحروا الموضوع من الصحيح، وما كان ليبذل هذا الجهد وذلك التحري لولا ما وراءه من باعث ديني.
ويعد اللحن الباعث الأول الذي حفز العلماء على جمع اللغة وتدوينها، ووضع الضوابط لصيانتها وحفظها، ومست الحاجة إلى تتبع اللغات والسماع عن العرب، كما أن خدمة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وتفسير غريبهما كان باعثًا على النشاط العقلي، فرحل العلماء إلى البادية، وهى مصدر اللغة في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، واجتهدوا في تحويل الثقافة العربية الشفهية إلى ثقافة كتابية، فاقبلوا على جمع مفردات اللغة وتدوينها، وتنوعت مصادر جمع اللغة، فقد كان المصدر الأول الذي جمع منه العلماء مفردات اللغة، هو القرآن الكريم، فقد وجد علماء اللغة العربية في ألفاظه أهم مصدر يغنى الثروة اللغوية، ويزيدها ثراء وخصوبة، وقال الراغب الاصفهانى: ألفاظ القرآن هي لب كلام العرب، وزبدته وواسطته، وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم.
الحديث الشريف مصدر آخر لجمع اللغة العربية
وكان الحديث الشريف مصدرًا مهمًّا من مصادر جماع اللغة العربية، لأن قائلة أبلغ العرب قاطبة وأفصحهم، فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وتهيأت له أسباب الفصاحة والبلاغة، وقد وصف الجاحظ كلامه فقال: ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أكمل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه.
يضاف إلى ذلك، نشأته وتقلبه في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده في بنى هاشم، وأخواله في بنى زهرة، ورضاعة في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجة من بنى أسد، ومهاجره إلى بنى عمرو، وهم الاوس والخزرج من الأنصار، ولم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولذلك انقادت له اللغة بما فضل قومه من قوة الفطرة، واستمراها وتمكنها، مع صفاء الحسن، ونفاذ البصيرة، فكان يصرف اللغة تصريفًا، ويديرها على أوضاعها، ويشفق منها فى أساليبها ومفرداتها.
ولذلك كله اهتم علماء اللغة بالحديث الشريف لأنه مكمل للقرآن الكريم، ومبين لأحكام الشريعة، وقد وجد فيه اللغويون مادة كبيرة من مواد اللغة. فكان له أثر في توسيع المادة اللغوية، بما أشاع من ألفاظ دينية وفقهية، لم تكن تستخدم من قبل بهذا الاستخدام الخاص، فأقبل العلماء على دراسته وشرحه، وألفوا في غريبه كتبًا كثيرة، وكان حافزًا لعلماء اللغة على أن يجمعوا حول ألفاظه ما يتصل بهذا الغريب ليشرحوه وليبينوا معانيه.
وتأثر علماء اللغة العربية بمنهج المحدثين في التثبت والإسناد، وأفرد السيوطى في (المزهر) بابًا بعنوان: (معرفة من تقبل روايته ومن ترد)
فقال قال ابن فارس في فقه اللغة: تؤخذ اللغة سماعًا من الرواة الثقات ذوى الصدق والأمانة، ويتقى المظنون..، فليتحر أخذ اللغة أهل الأمانة والصدق والثقة والعدالة.
وقال ابن الانبارى في لمع الأدلة في أصول النحو: يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلاً رجلاً كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، كما يشترط في نقل الحديث، لأن بها معرفة تفسيره وتأويله، فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله، وإن لم تكن في الفضيلة من شكله، فإن كان ناقل اللغة فاسقًا لم يقبل منه.
وقد أوجب علماء اللغة الإسناد في نقل اللغة لوجوبه في الحديث، فاشترطوا في ناقل اللغة العدالة بحسب ما يناسب اللغة، ورفضوا المجهول الذي لم يعرف قائله، كما رفضوا الاحتجاج بشعر لا يعرف قائله، كما خوفًا من أن يكون مولدًا، فتدخل به الصنعة على اللغة، واعتبروا من اللغة متواترًا وآحادًا ومرسلاً ومنقطعًا وأفرادًا، وعلى نحو ما ذكر السيوطى فى المزهر.
الدين والتطور اللغوي
وكان تأثير الدين الجديد كبيرًا في اللغة وتطور دلالات ألفاظها، فقد انتقل الإسلام بالعرب من البداوة إلى الحضارة، وحول اهتمامهم من الحواس والغرائز إلى العقل والتفكير، فكانت اللغة العربية تواكب هذا التطور، وتمده بألفاظ تلبي حاجة المجتمع الجديد للتعبير عن المدلولات الجديدة، وبقدر ما تكون الحضارات حية وغنية في أصالتها يكون منسوب تأثيرها في اللغات، حتى لتوشك اللغات أن تكون وعاء لها أو صورة عنها، ولعل مرد ذلك إلى طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، فإبداع الفكر في حاجة إلى لغة تصوغه وترصده، ومعطيات اللغة المتجددة مرهونة بتحريض الفكر ورقيه واحتياجاته، إنهما كوجهي عملة نقد واحدة، أو كطرفين متحالفين في قضية واحدة، وبينهما قاسم مشترك من التأثير لا غنى عنه إزاء التطور التاريخي للوعي الانسانى .
مظاهر التطور الدلالي التي أحدثها الإسلام في اللغة
ومن مظاهر التطور الدلالي التي أحدثها الإسلام في اللغة العربية ظاهرة (تخصيص الدلالة العامة)، ففي اللغة ألفاظ تضيق بعد سعة، فتنتقل دلالتها من العام إلى الخاص، ويساعد على ذلك تنظيم الحياة، وسن القواعد، ووضع التشريعات الضابطة، ومن هذا نرى تغيير دلالات كثير من الكلمات التي كان يشيع استعمالها في معان خاصة، كالصلاة، والزكاة، والنفاق، والوضوء، والأذان، والتيمم، وهذه الكلمات وغيرها لم تكن العرب تعرفها قبل الإسلام بمدلولاتها التي استعملها المسلمون.
وفطن الإمام ابن قتيبة إلى ما أحدثه الإسلام من تغيير عميق في حياة الغرب، تناول جوانبها المختلفة كالتفكير والمعتقد وروابط الاجتماع، واقتضى هذا التغيير في الفكر والسلوك تغيير المفاهيم، وتطوير الدلالات في اللغة، لتغدو الألفاظ القديمة قادرة على ترجمة الدلالات الجديدة.
فقد كان أثر الإسلام واضحًا كل الوضوح فى مفردات اللغة العربية ودلالاتها، فقد تجرد كثير من الألفاظ العربية من معانيها العامة القديمة، وأصبحت تدل على معان خاصة تتصل بالعبادات والشعائر، أو شئون السياسة والإدارة والحرب، أو مصطلحات العلوم والفنون.
كما كان فضل الإسلام كبيرا على اللغة العربية، فأضحت لغة الحضارة الإسلامية، ولغة العقيدة الدينية، ولغة العلوم النقلية والعقلية، ولغة البلاغة والزخرف اللفظي، كما غدت لغة الموسوعات والتاريخ.