إنها علاقة تواصلية عريقة بين أهل اللغة العربية، وأهل لغة الهوسا. فقد كان التجار العرب يأتون بسلعهم (الحرير، والسروج، والسيوف، والنحاس، وأدوات، ومنسوجات الخ) إلى غرب القارة الأفريقية وبخاصة المنطقة المشهورة بكثرة الذهب (وانجارا) Wangara ويضعونها منظمة في مكان معروف، ثم يختفون. ومن ثم يخرج الأفارقة فيضعون بجوار كل سلعة قيمتها من الذهب (والعاج والجلود) ثم يختفون أيضاً. ثم يأتي التجار فإذا رضوا بقيمة الذهب (وغيره) المطروح أخذوه وانصرفوا وإلا تركوه واختفوا ثانية، فيخرج الأفارقة ليزيدوا من كمية الذهب، وهكذا تستمر العلمية حتى يقتنع ويتراضي كلاً من الطرفين.
واستمر هذا التبادل التجاري حينًا من الدهر حتى أسدل الستار عليه، لصعوبة التفاهم بـ”التجارة الصامتة”، وظهر أسلوب “المشافهة”. وهنا بدأ التجار بوضع حجر الأساس للغة العربية وكان هذا قبل القرن السابع الميلادي، أي قبل دخول الإسلام القارة السمراء. ولقد كانت العربية أرقي من اللغات المحلية فكانت لغة التجارة في هذه الآونة، ومن ثم التقطها التجار الأفارقة من نظرائهم العرب وساعدوا علي نشرها وانتشارها. فنجد الدم اللغوي المشترك يسري في التجار في الأسواق النيجيرية الرئيسة كسوق “كانوا ” Kano، علي سبيل المثال، حيث يُلم التجار ببعض العربية ـ مُشافهةـ مع بعض اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية.
وكان من أوائل الكلمات العربية التي دخلت الهوسا Hausa (وغيرها من لغات محلية كاليوربا والفولا)، وببعض التحريف، أسماء البضائع والسلع المستوردة (كالحرير، والزعفران، والسرج، والقرنفل الخ) من البلدان العربية ولم تكن معروفة عند أهل تلك الولايات. كذلك أدخلت ألفاظ العقود من الأعداد من عشرين إلي تسعين وكلمات الفروسية ، وبعض الكلمات التي تكثر على ألسنة التجار كالأمانة والهبة: (الله يهبك الصبر) “Allah ya baka hakuri”. وكلمات دينية كالركوع والسجود والكفارة وغيرها. كما انتشر أسماء الأيام العربية حتي نسي الناس أسماءها المحلية وتنطق هذه الأيام بالهوسا كتالي: Asbar / السبت، Lahadi / الأحد، Litinin/ الاثنين، Talata/ الثلاثاء، Laraba/الأربعاء، Alhamis/ الخميس، Jumua/ الجمعة.
ولقد قدر باحثون كالدكتور علي أبي بكر في بحثه “الثقافة العربية في نيجيريا” أن عدد الكلمات العربية في منظومة مفردات لغة الهوسا تصل إلي الخمس (20%) (راجع أعمال المؤتمر الدولي لقسم اللغات بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية: “اللغة والثقافة في إفريقيا”، 28-27 أكتوبر 2001، ص:257-227). فلقد استعان القاموس الهوساوي بالمفردات العربية في مجالاتها المتعددة وأعادوا صياغة المئات منها لتكون ضمن مفردات لغاتهم. ولم يقف تأثير اللغة العربية في لغة الهوسا على مجال المفردات، وإنما امتد إلى الأدب، فقد كان للثقافة العربية أثرها في أدب الهوسا: الصور والأفكار ورواية القصة والشعر.
وما إن أشرق الإسلام في غرب القارة السمراء ووسطه، وامتزاج التجار العرب المسلمين مع سكان البلاد الأصليين، حتى أصبح لزاماً انتشار اللغة العربية، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والمعارف والعلوم الإنسانية. ولقد بلغت اللغة العربية عند كثير من الشعوب الإسلامية حد التقديس، كما تركت بصماتها واضحة جلية في كثير من لغات العالم الحية والمكتوبة. ولقد وجد الهاوساويون إلهامهم في التراث الأدبي العربي الذي ازدهر في ظل هجرة القبائل العربية لأفريقيا والتي أحدثت انقلاباً ثقافياً علمياً كبيراً، مما أدى إلى ظهور العديد من العلماء والفقهاء الذين تتلمذوا على يد نخبة من العلماء العرب الذين قاموا بتدريس علوم اللغة العربية والإسلامية في جامعة سنكري، ومسجد حنغرى يير، ومسجد سيدي يحى، ومسجد جنى، ومسجد التواتتين ، والجامع الكبير باقدز، وزاوية الشيخ عبد السلام الأسمر بكانو ، وزاوية السمانية بكاتو ، ومسجد كتيو، ومسجد إيسين، ومسجد إدلوؤ، ومسجد أوكانو، ومسجد تنومبو ، ومن هؤلاء العلماء العرب الذين كان لهم دور في تعليم أبناء الهوسا من أمثال العالم زكريا محمد بن أبى بكر الغدامسي، والقاضي محمود أبو بكر ، والأمام عثمان الحسن التسني، وغيرهم من العلماء العرب المسلمين الذين ارتادوا هذه المنارات والزوايا العلمية الكبرى في أفريقيا. ولا يزال ـ حتى الآن ـ تعليم القرآن الكريم واللغة العربية شبه نظامي في كتاتيب أطفال الهوسا المسلمين. مما شكل مكانة كبيرة للعربية، وترسخت جذورها، وكثر استعمالها من قبل الناطقين بالهوسا علي اختلاف مكانتهم الاجتماعية.
ما هي لغة الهوسا؟
تعتبر لغة الهوسا من أهم اللغات الإفريقية، وهي اللغة القومية في النيجر، وتعتبر لغة رسمية في شمال نيجيريا. وهي اللغة الثانية بعد العربية من حيث عدد الناطقين بها في القارة السمراء. حيث يتواجد الهوساويون في مساحة جغرافية واسعة في كل من ليبيا، والسنغال، والسودان، وتشاد، ومالي، وبوركينافاسو، وبنين، وغينيا كوناكري، وغامبيا، وغينيا بسياو، وسيراليون، وليبيريا، وساحل العاج، وغانا، وتوجو، والكاميرون، وأفريقيا الوسطى، وأرتيريا، وأثيوبيا وأدى هذا الانتشار الواسع لمناطق الهوساويين لوجود نحو مائتي وثمانين مليون نسمة يتحدثون الهوسا. ويطلق أهلها على أنفسهم: هوسا باكوي والهوساوا والهوساس، فكلمة الهوسا تعني عندهم اللغة والناس.
ويتفق مؤرخون على أن لكلمة “هوسا” مدلولا لغوياً أكثر من أن يكون عرقياً. وأن “الهوسا” ليست قبيلة بقدر ما هي أمة تنضوي تحتها عشرة أقاليم لسانهم واحد، وعلى كل إقليم أمير يسير أمور أمارته، وهذه الأقاليم “أوسطها كاتنة، وأوسعها زكزك، وأجدبها غوبر، وأبركها كنوا”. فالقبائل التي تتكلمها تمارس حرفتي التجارة والرعي ومن شأن التجار والرعاة التنقل والترحال. وبذلك أسس الناطقون بها مراكز تجارية، فضلاً عن أن شعب الهوسا على درجة كبيرة من التحضر وأكثرهم يقطنون المدن فكانوا في أمس الحاجة لاستعارة أكثر الكلمات التي تعبر عن الحضارة والعمران. فمن المعلوم أن اللغات كائنات حية تتحرك، وإن لم تـُرفد بأسباب الحياة فإن عوامل الفناء قد تتغلب عليها.
وللغة الهوسا لهجتان رئيستان: اللهجة الغربية وينطق بها أهل “صكتو” وتنتشر في المناطق الشمالية الغربية من نيجيريا والنيجر، وهي أشد محافظة على الأنماط اللغوية القديمة. واللهجة الشرقية ويتحدث بها أهل كنوا، وتنتشر في الأجزاء الشرقية من نيجيريا والنيجر، وهي التي وقع عليها الاختيار على أن تكون لهجة فصحى بالرغم من مرورها بتغيرات لتبسيطها لكثرة استعمالها من غير المتحدثين بها. وهي تعد من اللغات البسيطة، يستطيع الإنسان تعلمها بسهولة، ويعبرون عن ذلك: ” Hausa ba dabo ba ce” الهوسا ليست سحرًا.
كتابة الهوسا بخط عربي
توجد قرابة لغوية بين العربية والهوسا حيث ينتميان إلى أسرة اللغات الأفروآسيوية التي ترجع إلى حوالي الألف السابعة قبل الميلاد. وتفرقت الأفرع اللغوية -لهذه الأسرة – وتعددت لغاتها فيما بين جنوب غرب آسيا إلى شمال وشرق وغرب أفريقيا بحيث انقرض من انقرض منها وتطور من تطور منها خلال قرون متطاولة، بحيث صارت اللغة العربية أهم لغات الفرع السامي ولغة الهوسا أهم لغات الفرع التشادي. وقد حملت الهوسا مزيجًا من ثقافات عربية وإفريقية، وتراثها زاخر بالآداب والإبداع والفنون الأدبية والشعبية والميثولوجيا المثيرة. كما كانت لغة انتشار العلوم الإسلامية الأولي في القارة السمراء وفي ربوع اثنيات متنوعة. وحديثًا أصدر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ترجمة لمعاني القرآن الكريم بهذه اللغة. وكان ملوك الهوسا قد أعلنوا عام 1800م اعتناقهم الإسلام واعتبروه الدين الرسمي. وقد نال تعليم العربية والعلوم الإسلامية أهمية كبري بعد نشأة دولة “سكوتو” التي أسسها “عثمان بن فوديو” 1804. وأصبحت العربية اللغة الرسمية في “سكوتو” لنحو قرن كامل، وكتب بها ملوك نيجيريا في مخاطباتهم لملوك البلدان الأخرى شرقاً وغرباً. وكانت كتابة الهوسا بالخط العربي علي عهد “محمد بللو” ((1837-1817 حيث وضع أسس كتابتها “عبد الله بن محمد شقيق الشيخ عثمان”، و”أسماء بنت الشيخ” (1749- 1863) وبعض أتباعه الأوائل مثل “قاسم دحل”، و”محمد تكرو”.
ومن أهم نقاط التلاقي بين اللغة العربية ولغة الهوسا في التأنيث والتذكير ،ففي لغة الهوسا كل الأسماء المؤنثة تكون نهايتها بالفتحة الممدودة،ومثال على ذلك: سندا ”عصا”، كجير “مقعد” رئدا “زير” فهذه الفتحة علامة التأنيث المشتركة في اللغتين وصورتها الكاملة تتشكل من عنصرين صوتيين هما الفتحة +التاء وقد استبعدت التاء بقصد التخفيف وأبقيت الفتحة لتقوم مقامها. ومن أوجه الاشتراك بين أصوات اللغتين توافقهما في كثير من الضمائر كضمير النسبة، وضمائر النصب المنفصلة ففي اللغة العربية: “بيتكَ وبيتكِ وبيتكُم”، أي مرة بالفتحة على الكاف، ومرة بالكسرة، ومرة بالضمة للتفريق بين المذكر والمؤنث المفرد والجمع المذكر وهذا يندرج على لغة الهوسا حيت يقولون: “كذنكَ وكذنكِ وكذنكُ” بحذف الميم نظراً لأن الكلمات الهوسية لا تميل إلى الوقوف على ساكن. كذلك تلتقي اللغتان في صيغ الجموع فتحتوي الهوسا إلى جانب جمع التكسير على أزيد من عشر صور أخرى.
ومن الأمثلة على ذلك في صيغ التكسير بالألف الممدودة فنقول بالعربية: “مسجد مسـاجد”، وفي الهوسا: “دوكي دواكي”. ويلتقي في العربية والهوسا إضافة الميم إلى الأفعال لاشتقاق اسم الفاعل، ففي العربية نشتق من الفعل: “زارع، مزارع”، ويناظرها في الهوسا: “نوما، منومي”. وصنف المختصون جداول عدة تضع لتبان التشابه بين المفردات والكلمات والجمل والمثال في اللغة العربية ونظائرها في لغة الهوسا مما لا يتسع المقام ولا المقال لسرده. والخلاصة: لغتنا العربية من أغزر اللغات مادة، وأطوعها تأليفاً، وأيسرها نهجاً في التعليم والتعلم، تعلمها أهل لغة الهوسا استماعاً واستعمالاً، وقراءة وتخاطباً، فصارت لهم لساناً عربياً فصيحاً.