“احذري! احذري أختي! الجدار يسقط! وإذا أجدني بين ركام من الغبار أنجرف نحو الأسفل وكأن الأرض تبتلعني.. لم أعد أرى ولا أسمع شيئًا.. وبعد لحظات شعرت ببرودة حطّت على قدمَيّ، ووجدت نفسي تحت أطنان من الأنقاض.. وفجأة بدأتْ تتوارد إلى ذهني مقاطع من حياتي كنت قد نسيتها من زمان بعيد.. يا إلهي، هل هي النهاية؟ ولكن أنا أخاف الموت! ثم لست مستعدة بعدُ للموت!
بدأت أختنق.. كأن روحي فجأة عزمت على الخروج.. ولكن لستُ مستعدة، لست مستعدة بعد! أرجوك يا رب، ساعدني أرجوك! وإذا بقلبي يلهج بالذكر تلقائيًّا طالبًا القبول منه تعالى، ويتبعه لساني بالشهادتين ولو بصوت خافت لا تسمعه الآذان.. عندها أدركت معنى الضعف والعجز، والخوف والرجاء. كنت في حالة تداخلٍ سريع ومرعب للأحداث.. الماضي مع الحاضر.. بدأ شريط حياتي يمر أمام عيوني المطبقة بسرعة غريبة.. شريط فيه أولادي وكل أهلي الذين لم أتصور حياتي بدونهم.
وسط هذه المشاعر المتداخلة المرعبة استيقظت من النوم والعرق يسيل من جبيني بغزارة.. كان كابوسًا مرعبًا.. كأن الله شاء أن يردّ إليّ روحي وأن أستيقظ من نومي بعدما أذاقني حقيقة الموت، ألمه ورهبته في آن واحد.. كان قلبي قد تجاوز دقاته المعهودة له في الدقيقة الواحدة.. وعقلي لم يدرك بعدُ كم مر من الوقت على هذه اللحظات المرعبة.
فهل هي رسالة لي من ربي أم فرصة حياة ثانية، لأبحث وأتدبر وأتأمل “الموت”، وأُبرْمج حياتي وفق حقيقته؟ نعم، إنها رسالة أو فرصة ثانية، موجّهة إليّ لأبقى في رحلة بحث عن أسئلة لعلها غير محبوبة لدي ولدى كثير من الناس.
النوم والموت
لقد عشتُ الموت الكبير وأنا في موت صغير (النوم)..ففي النوم تذكير للإنسان بالموت.. فكما لا يستطيع الإنسان أن يدفع عن نفسه النوم، كذلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الموت.. فالنوم تذكير بالموت واستحضار له.
النوم هو “موت محبب” نستسلم له طواعية ونطلبه.. وهو آية إلهية عظيمة لا بد من تدبرها وتأمّلها.. فكما ينام الإنسان ويصحو، كذلك يموت ويُبعث مرة أخرى..وكما يعجز الإنسان عن مقاومة النوم، فكذلك يعجز عن حماية نفسه من الموت.
هل حبنا لذواتنا يجعلنا نخاف الموت؟ أم هو الخوف من الفراق، وترك الأبناء والأخلاء؟ أم أننا نخاف مما هو مجهول؟
كلنا نردد أن “الموت حق”، وأن “كلنا سنموت”، لكن هل نعي هذه الكلمات بوجداننا؟ هل نأخذ الموت على محمل الجد؟
نظرة من وجهة أخرى
كلنا يعمل ويكدّ، ويسعى ويجتهد، وكلنا يعرَق، ويبكي، ولكن دون إدراك بأن كل نقطة عرَق تتصبب على جبيننا، وكل دمعة تسيل على خدّنا، تحمل خلايا ميتة.. بل إن ملايين الكرات الحمراء، تولد وتعيش وتموت في دمنا دون أن ندري عنها شيئًا، ومثلها الكريات البيض.. كلها خلايا قصيرة العمر تولد وتموت ويولد غيرها ويموت.. وتدفن جثتها في الغدد أو تفرز إلى الخارج في هدوء وصمت دون أن نحس بشيء.. ألسنا مستفيدين من هذا الموت لنحيا ونفوز؟(1).
وإذا كانت أجسامنا لا تحيا إلا بعمليات الموت بداخلها، فلماذا إذن نخشى الموت؟
كثيرًا ما ينتابنا الخوف عندما نرى الموتَ يأخذ أحد المقربين منا، فنعود لنصارح أنفسنا بل ونتعايش مع هذا الموقف الذي سنكون أحد أبطاله يومًا.
نعم أيها الإنسان.. عندما يترجم عقلك حدث “الموت” بأنه التجربة الوحيدة التي ستعيشها دون رجوع أو عودة أو تصحيح، وأن الموت لا يحدث إلا مرة واحدة؛ فيصبح لذلك هو سر اللغز؛ فأثناء الحياة أعيش تجربة قد أخفق فيها، فأجد فرصة العودة والمراجعة والتصحيح والاستفادة من ذلك الإخفاق، بينما لا يأتي أحد من عالم البرزخ ليحكي لنا عما جرى له وكيف كان مصيره.
وربما يكمن اللغز في غريزة حب البقاء عند الإنسان. كيف سيكون حالنا إذا كانت الدنيا بلا موت؟ يبدو أن مجرد التخيل والتفكير في الإجابة على هذا السؤال، قد يشعرنا بالقلق والخوف وسط هذا الزحام من الكائنات الحية، وهذا الشعور هو مكمن الإجابة.
دعوة للتأمل
بعد رحلة التفكير عن الموت وأهواله، سألت نفسي سؤالاً صريحًا؛ ما الذي تودين قوله وتلخيصه؟ هل تودين إظهار الموت بصورة أقل وطأة مما في وجداننا؟ كانت الإجابة “لا”.. فيظل الموت كما قال عنه النبي هو “هادم اللذات”.. لكنه أمرنا بأن نذكره حتى لا ينشغل الإنسان عن الإعداد لما بعد الموت، وحتى لا نغفل عن الحقيقة المؤكدة بأن “كل نفس ذائقة الموت”.
تساءلتُ أيضًا: لماذا نرى وسط زخم الحياة ومشكلاتها كثيرًا من الناس لا يتذكرون الموت إلا إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ حيث تراهم يطلبون الموت هروبًا من الدنيا وعقباتها! ولماذا لم يكن ذلك حالهم عندما كانوا يستمتعون بمباهج الدنيا؟ فهل تعرضهم لامتحان مفاجئ وتعثرهم فيه سبب يجعلهم يتركون التعليم بأكمله؟ أم كان عليهم أن يفكروا بأن ثمة فرصة ما زالت أمامهم للتطوير والتحسين؟ أليست الحياة في حد ذاتها نعمة تستحق الشكر؟
في حين نرى آخرين لا يلقون بالاً للموت؛ إذ أصبحت الدنيا همهم الأكبر، وكأن لسان حالهم يقول “ما زال متاع الحياة أمامنا”. وهل ملَكُ الموت أقرب للمريض من الصحيح وللعجوز من الصغير؟
لماذا -إذن- لم يُطلع الله تعالى أحدًا من خلقه على موعد انتهاء الأجل؟ إن في هذا الإخفاء رحمة في حقيقة الأمر، وتحفيزًا للإنسان على فعل الخيرات، علمًا بأن حياته قد تنتهي في أية لحظة. فلو أخبرنا الله بموعد الموت، يُحتمل أن نُقبِل إلى التوبة والاستغفار قبل حلول الموعد بأشهر أو ربما بأيام فقط.. في هذه الحالة تنتفي الحكمة من الحياة.
لقد أخفى الله تعالى عنا لحظة الموت ليعلِّمنا النظر إلى الحياة بأمل، ويزيل عنا قلق انتظار الموت وهمِّه.. ثم نعمل ونخطط ونجتهد ليتحقق بذلك مفهوم الاستخلاف في الأرض وهو الإنشاء والإعمار.
إن الموت من الابتلاءات العظيمة التي يمر بها الإنسان، فيه ثواب عظيم إذا صبر الإنسان واحتسب ورضي بالقضاء والقدر. ولو كان للموت علاج لبرأ منه الأنبياء من قبل. ثم وإن بدا الموت في الظاهر ابتلاء، فإنه راحة وخلاص للمريض السقيم.
أم أننا نكره الموت خوفًا من فقدان عيالنا وأهلينا؟ الحقيقة، كنت واحدة ممن ينتابهم هذا الخوف إلى حين قراءة هذه الآية بتأمل وتدبر: ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(النساء:9)، الحل والأمان في “فليتقوا الله”.. ولقد كان صلاح الأب في سورة الكهف سببًا في حماية أبنائه من بعده.
إن الخوف من الموت، قد يكون بسبب التقصير في العبادة، أو الخوف من لقاء الله تعالى مذنبًا، أو الخوف من المستقبل.. وهو ما يتطلب الدعاء، والفرار إليه سبحانه باتزان بين الخوف والرجاء، يقينًا أنه تعالى رحيم غفور بعباده.
وإجمالاً، إذا كان الموت يعني الفناء، فهو مخيف وبغيض. أما إذا كان يعني الانتقال إلى حياة أفضل في عالم آخر، فهو غير ذلك. فالحياة مجرد معبر لحياة أخروية أبدية تنتظر الخلق، لا تعب فيها ولا كد ولا موت.. حياة بها خلود بلا فراق.. وإذا كان الموت في ظاهره يحمل الفراق والحرمان، فإنه مهما طالت بنا الحياة فإن الفراق حتمي.
(*) كاتبة وباحثة مصرية.
الهامش
(1) كانت هذه هي نظرة الفيلسوف والدكتور مصطفى محمود ورؤيته عن الموت في كتابه “لغز الموت”، حاولت تجميعها بشكل مختصر.