أولى الإسلام عناية خاصة بقضية التعايش والتعامل مع غير المسلمين، وخاصة اليهود والنصارى الذين أطلق عليهم مصطلح “أهل الكتاب”. “فعند تتبع هذا المصطلح في القرآن، سنجد أنه ورد أربعًا وعشرين مرة في إشارة إلى اليهود والنصارى على وجه التحديد، لكن سياق هذه الآيات القرآنية وسباقها يختلفان؛ فبعضها يمدح أهل الكتاب لإيمانهم بالآخرة وأعمالهم الصالحة كما في الآية 13 من سورة آل عمران، والبعض الآخر يعنفهم لأنهم ضلوا عن سبيل الله عز وجل كما في الآية 99 من سورة آل عمران، وثمة مجموعة أخرى من الآيات تدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين كما في سورة آل عمران الآية 64، في حين أن مجموعة أخرى تشير إلى وجود علاقة حميمة بين المسلمين والمسيحيين كما في سورة المائدة الآية 82. وقد ظلت العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) موضوعًا للنقاش بين المسلمين لقرون طويلة. واستندت نظرة الإسلام المتعلقة بعلاقات المسلمين بأهل الكتاب مباشرة لتلك الآية الشهيرة في القرآن الكريم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران:64).
وتعد هذه الآية التي نزلت في السنة التاسعة من الهجرة (629م) من أعظم الدعوات العالمية الشاملة للتعايش معًا في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم”.
ومن ثم فقد كان تركيز المسلمين على قضية التعايش الإيجابي مع غير المسلمين عبر العصور في البناء الفكري والعقائدي، من الأمور الأساسية، التزامًا بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فقد بنى الإسلام علاقة شرعية مع غير المسلمين قوامها التسامح والعدالة والإحسان والرحمة، وهي مبادئ ومفاهيم لم تكن معروفة بالقدر الذي عرفه الإسلام”. وسنستعرض في هذا المقال بعضًا من ملامح الرؤية الإسلامية حول قضية التعايش السلمي المتناغم، وإبراز بعض المبادرات الإيجابية في هذا المجال، مثل مبادرة حركة الخدمة التي ظهرت في وقت تنتشر فيه الكراهية، ويُتنبأ بحدوث صِدام بين الحضارات، ومثلت أهمية بالغة للإنسانية الحديثة.
التعايش مع غير المسلمين في ضوء الكتاب والسنة
إن رسالة الإسلام رسالة عالمية تخاطب الأسرة الإنسانية كافة، وهي رسالة تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم، وترسي دعائم السلام في الأرض، “وتدعو إلى التعايش بين البشر جميعًا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من “نفس واحدة”، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء:1).
ومن ثم فالجميع في نظر الإسلام متساوون، وجميعهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في نظر القرآن دون النظر إلى دينه أو لونه أو جنسه، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70).
بل لقد عدَّ القرآن الكريم اختلاف البشرية في ألوانها وأجناسها ولغاتها، آية من الآيات الدالة على عظيم قدرة الخالق عز وجل، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)(الروم:22).
“وهذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سببًا في التنافر والعداوة، بل بالعكس يجب أن يكون سببًا للتعارف والتلاقي على الخير والمصلحة، فالله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13).
وميزان التفاضل إنما هو ما يقدمه الإنسان من خير للإنسانية كلها مع الإيمان بالله الحق: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13)”.
فليس في الإسلام أي لون من ألوان التعصب المقيت ولا الكراهية البغيضة، إذ لم يكتف الإسلام بتعليم أتباعه هذا التسامح الشامل بوصفه شرطًا من شروط السلام الضروري للمجتمع الإنساني، بل يطلب منهم أيضًا الالتزام بالسلوك العادل الذي لا يقبل بالآخر فحسب، بل يحترم ثقافته وعقيدته وخصوصياته الحضارية، وخير وصف يمكن أن نطلقه على هذا التسامح أنه تسامح إيجابي وليس تسامحًا حياديًّا، قوله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8).
“ومن الملاحظ في هذه الآية وفي آيات أخرى كثيرة، أن القرآن لم يستخدم أسلوب الأمر المباشر، وإنما استخدم أسلوب التنبيه والتوجيه الذي يتطلب استخدام العقل الإنساني.. فقد اشتمل النص القرآني في هذه الآية على ثلاثة أمور؛ أولها أن الله لم ينه عن التسامح مع الآخرين، وثانيها أن التسامح مع الآخرين الذين لم يعتدوا على المسلمين والتعايش الإيجابي معهم بالبر والقسط هو العدل بعينه، وثالثها التأكيد على أن من يسلك هذا السبيل يحظى بحب الله عز وجل”.
وبهذا الأسلوب المقنع الذي يخلو من الإكراه على فعل شيء ما أو الامتناع عنه، تصل الرسالة القرآنية -رسالة التسامح- إلى النفوس في يسر وسهولة، وتحقق الهدف المطلوب وهو نشر التسامح بين الناس على أوسع نطاق”.
أما الأحاديث الواردة في السنة النبوية بشأن التعايش مع غير المسلمين من أهل الكتاب، فهي كثيرة؛ فقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مثالاً للكمال الإنساني، وفي علاقته مع ربه وعلاقته مع الناس بمختلف أجناسهم وأعمارهم وألوانهم مسلمين وغير مسلمين. “وتعد وثيقة المدينة التي عقدها الرسول الكريم مع أهل الذمة والتي تتضمن أكثر من أربعين بندًا ينص بعضها على مبادئ ومفاهيم التعايش السلمي بينهم، هي الوثيقة السياسية الأولى في الإسلام التي وضعت آلية هذا التعايش الإنساني”.
مبادرة حركة الخدمة في الحوار والتعايش الإيجابي محليًّا وعالميًّا
إن الواقع المرير على مدى القرنين الماضيين، شهد صراعًا على كافة المستويات، وفقد الناس فيه قدرتهم على تقبل بعضهم البعض وإحلال التعايش والتفاهم محل النزاع والصراعات.. وقد أدى ذلك بالتبعية إلى التشرذم، وفقدان الإنسانية في نهاية المطاف وحدتها وأمنها وأمانها. ولا شك أن استعادة كل ما فقد حتى الآن لن يتأتى إلا بقبولنا لبعضنا البعض؛ وهذا ما يحتاجه العالم بدرجة أكبر اليوم. ومن ثم فقد برزت مبادرات عديدة تدعم هذه الحاجة وتأخذ زمام المبادأة، في وقت كان الجميع يرفض كل هذه المحاولات وينقضها، ومن أهم الرواد الذين احتلوا مكانة بارزة في هذا الصدد الأستاذ فتح الله كولن رائد حركة الخدمة، فما فتئ يردد في كل مناسبة فضائل التسامح والحوار والتعايش المجتمعي، مرددًا عبارته الشهيرة: “افتح صدرك للجميع، افتحه أكثر ما تستطيع”، وقوله: “أَشعِرْ الناس أن في قلبك لكل واحد منهم متكأً”.
وفي حوار أجراه مع جريدة الوطن المصرية في أبريل/نيسان 2017، أكد على أن هذا المنهج في التعايش ليس بدعًا في القول ولا العمل، بل هو منهج نبوي أصيل طبقه النبي وخاصة في وثيقة المدينة المنورة، مع الذين كانوا يحملون أفكارًا مختلفة.
وفي تأصيله لفكرة التسامح في ضوء المبادئ الإسلامية الرئيسة، اتخذ من “البسملة” نقطة انطلاق؛ لما فيها من تكرار لاسمي الله “الرحمن” و”الرحيم”، فإن الله تعالى يريد أن يُعلّم المسلمين بتلك العبارة -إلى جانب حِكَمها الأخرى- أن يكونوا رحماء في علاقاتهم مع الآخرين من الناس وحتى مع الطبيعة. ويرى كولن أنه ينبغي التفكر كثيرًا والوقوف طويلاً على حكمة تكرار هذه العبارة مائة وأربع عشرة مرة في القرآن.
كما ركز على مفهوم “الحُبّ” باعتباره منطلقًا أساسيًّا أيضًا، إلى جانب الرحمة في تأسيس أرضية للتعايش الإيجابي البناء؛ “ففي حديثه عن الحب في التقليد الروحي يركز كولن اهتمامه على أحد أسماء الله الحسنى وهو “الودود” كما تناوله الفكر الروحي، يقول كولن ما معناه: إنه يتوقع من المسلمين أن يعكسوا هذه الصفة في حياتهم وأن يصبحوا أمة مُحِبّة، كما كان سعيد النورسي الذي جعل الحب شعار فلسفته الخاصة. فلا سلاح أقوى في الكون من الحب”.
ولم تقتصر دعوته إلى التعايش الإيجابي والحوار الفعال على مجرد عرض الأفكار في دروسه ومحاضراته وكتبه، بل بدأ فعاليات دعا الناس فيها إلى نبذ الخلاف والعصبية والاجتماع على كلمة سواء. حيث انطلقت هذه الفعاليات من تركيا منتصف التسعينات من القرن المنصرم، ودعا فيها إلى التعاون للخلاص من الانقسامات التي تعاني منها البلاد، سواء بين العلمانيين والمتدينين، أو بين العلويين والسنيين، أو غيرها من أشكال الانقسامات.
وقد لاقت هذه الجهود ترحيبًا شعبيًّا واسعًا، والتقى على مائدة واحدة أناسٌ كانوا بالأمس القريب لا يعرفون سوى لغة التحزب والعصبية الطائفية، فصاروا يناقشون قضاياهم بكل هدوء وبلغة راقية. وقد حمل أبناء الخدمة أصداء هذه الفكرة إلى كل مكان رحلوا إليه أو أسسوا فيه مؤسسات تعليمية وتربوية.
ويتابع الأستاذ كولن قوله:”فكلنا نعلم بالطبع أن مشكلة الخلاف ليست قاصرة على مناطقنا فقط، فكل المناطق في العالم تعاني من مرضِ تأجيج الخلافات بين الناس وإثارة التصادم بينهم، والإنسان في الواقع هو من يصنع هذه المشاكل، فحيثما وُجد الإنسان فإن المشاكل تتشابه والحلول أيضًا لا تختلف.
وقد تبين للناس من شتى الألوان -بعد الاطلاع على هذه الخبرة- أن الاختلافات لا تؤدي بالضرورة إلى نزاعات، بل إذا قوبلت برحابة صدر فإنها تتحول إلى ثراء في المجتمع.
لقد أسهمت المؤسسات التعليمية والتربوية التي أسسها أبناء الخدمة في نحو 170 دولة من دول العالم في ترسيخ هذا المبدأ، خاصة في المناطق التي تعاني من هذا الداء؛ ففي جنوب “الفيليبين” مثلاً، فتح محبون للخدمة مدرسة أسموها “مدرسة التسامح الفيليبينية”، وهي تتواجد في منطقة يقطنها 50% من المسلمين و50% من المسيحيين، ويغلب على هذه المنطقة طابع التوتر والتجاذب بين هؤلاء الأطياف. لكن المدرسة تعطي التلاميذ الفليبينيين -مسلمين ومسيحيين- دروسًا إيجابية، وذات جودة عالية في كيفية التعايش مع الآخر. ويعمل فيها كوادر محلية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وكذلك الأمر في البوسنة والهرسك بين البوسنيين والصرب والكروات، وفي إقليم كردستان بين الأكراد والعرب والتركمان والقوميات الأخرى، وفي مناطق أخرى من العالم نجحت -بفضل الله- تلك المدارس في تأسيس هذه القيمة ورعايتها، والقضاء على القبح الناتج عن التهميش والإقصاء.
لكن ما يحز في النفس الآن، أن الحكومة التركية بعد إغلاقها لكافة المؤسسات في تركيا، تبذل كل جهدها وتنفق أموال الشعب؛ للعمل على إغلاق هذه المؤسسات في الخارج بدلاً من الاهتمام بمشكلاتها الداخلية، والتصدي لظاهرة الإرهاب التي بدأت تتنامى في الفترات الأخيرة وتحصد الأرواح بلا وازع من دين أو إنسانية.
الخاتمة
مما تقدم يتبين أن التعايش الإيجابي المتناغم من الأساسيات في تعاليم الإسلام، ومن ثم فإن التزام المسلمين بمبادئ التسامح والتعايش أمر يدخل في إطار التزاماتهم الدينية، التي توجب احترام الحقوق الإنسانية والدفاع عنها للأسرة الإنسانية كافة، كما يقضي في الوقت نفسه بوجوب التصدي لأي محاولة لتجاوز هذه الحقوق، أو الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال.
وقد أثبت التاريخ الإسلامي على مدى عصوره المتعاقبة، مدى احترام المسلمين لهذه الحقوق وتعظيمهم من شأنها، سواء على مستوى الفكر أو التطبيق. كما استلهمت حركة الخدمة هذه القيم من المبادئ القرآنية والنبوية، واستطاعت أن تقدم صورة حضارية لقيم التعايش والحوار الإيجابي البناء، من خلال مؤسساتها التربوية والثقافية والإغاثية.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2014، ص:15-16.
(2) التعايش السلمي بين الأديان السماوية، علي عطية الكعبي، مكتبة صفحات الإمارات، دبي، ط1، 2014 ص:64.
(3) ظهرت في ذلك الوقت نظرية “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، لصامويل هنتنجتون.
(4) الإسلام وقضايا الحوار، محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 2002، ص:207.
(5) راجع حوار الأستاذ في جريدة الوطن، في “مواقف في زمن المحنة”، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2017.
(6) فتح الله كولن: “نحو الفردوس المفقودة” (Yitirilmiş Cennete Doğru)”، “الحُبّ”، ص:106، نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول 2012م، باللغة التركية. قارن ذلك بمقولة النُّورسي: “نحن فدائيو المحبة وليس عندنا وقت للكراهية”. (بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، الخطبة الشامية، دار النيل، ص:494).