إن بين أيدينا رواية تعلمنا الطريق الحقيقي للانبعاث من ظلمات التيه إلى الرشاد، وأن البناء الحقيقي للأمة يكون ببناء أفرادها ووضعهم على طريق الله. فإن الفرد إذا انبعث وتحرك انبعثت الأمة وتحركت نحو نهضة حضارية حقيقية، فليست النهضة بالأبنية الشاهقة ولا بالأسلحة المهلكة، بل مقياس النهضة هو الإنسان، وهذه هي الأطروحة التي تعالجها الرواية بأسلوب حكيم ومنطق عملي عرفاني.
لا تكن ممن مات في العشرين ودفن في الثمانين
المعنى الحقيقي للحياة: ابتدأ الكاتب بوضع قضية الحياة والموت محورًا مركزيًّا، وعالجها بمقاربة جديدة بأن جعل معنى الموت هو “الغفلة وغياب الوعي”، ومعنى الحياة “اليقظة وانبعاث الوعي”، فلربما مات الإنسان وقلبه لا يزال يخفق، ولربما عاش الإنسان وهو مدفون منذ مئات السنين. وقد سأل أحد الحكماء تلامذته ذات مرة: ما المعنى الحقيقي للحياة، وما المعنى الحقيقي للموت؟ فأجابه تلامذته بأجوبة مختلفة، وأجاب هو بالتالي: المعنى الحقيقي للموت أن تعيش على ظهر هذه الأرض طيلة عمرك ثم تدفن في التراب وليس لك أي أثر في هذا العالم، والمعنى الحقيقي للحياة أن تعيش على هذه الأرض وتدفن ولا تزال آثارك فيها. فلرب شخص يعيش بين الناس وهو ميت، ولرب ميت وهو حي، ولكن الكاتب عالج قضية الحياة بحكمة رائقة، فليس معنى الحياة أن تكون ناجحًا في عملك فقط، بل هذا جزء لا بد منه، ولكن النجاح الأسمى الذي يُطلب منك هو نجاحك في علاقاتك مع رب السماوات والأرض، وذلك بأن تنشغل بما طلب منك ولا تنشغل بما هو مضمون لك، وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)(الأنعام:122).
ولعل سائل يسأل: لماذا ركز الكتاب على قضية الغفلة وغياب الوعي؟ والجواب: إن الانبعاث الحضاري للأمة يكون باستيقاظها من غفلتها الحقيقة ولهثها وراء الفاني، بل إن الإنسانية بأسرها تحتاج إلى هذا، إلى انبعاث نحو الغاية العظمي.
اليقظة أولى منازل السائرين
منزلة اليقظة هي أولى منازل السائرين في طريقهم إلى الله، وهي انزعاج يصيب القلب بعد تنبيه يأتيه وهو في رقدة الغافلين، فيرتعد القلب ويصيب الإنسان قلق بالغ، ويدرك حقائق محيطة به في عالمه الواقعي لم يدركها من قبل، وتتكالب عليه الذكريات والأحزان والهموم، فيشعر بأن هناك شيئًا قد فُقد منه، فيبدأ بالتفتيش والبحث عنه، ثم بعد ذلك يجد أن “ما تبحث عنه يبحث عنك”.
وها هنا إشارة عرفانية، وهي أن شرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها أصناف الخليقة، استعداده لمعرفة الله تعالى، وهي في الدنيا جماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وهذا الاستعداد بالقلب لا بجارحة من الجوارح.
هذه اليقظة التي أصابت بطلنا “مطر”، هي ما جعلته لا ينام في الليل، فأراد أن يبحث عن إجابة لسؤال، وهذا هو حالنا فأنا وأنت (مطر) نعيش في رتابة غير اعتيادية، هل حاولنا ذات مرة أن نسأل أنفسنا: لماذا نعيش؟ لماذا خُلقنا؟ هل بحثنا حقًّا عن معنى الحياة؟
فإذا أصاب الإنسان هذه الحيرة، انتقل منها إلى منزلة أخرى وهي الفكرة ، فتُحدث الفكرة في داخله صراعًا بين الركون إلى الدعة والراحة وبين التعمق في حاله، فإذا مازج فكرته باللجوء إلى الله، قَوى الذكر الفكر، وانهالت عليه أنوار وفيوضات من الرحمات، وصار مؤيدًا، وهذا حال لا بد للسالك منه.
إياك واليأس
هل يمكن لإنسان قضى غالب حياته في غفلة وارتكب كل المنهيات أن يصير هاديًا مهديًّا، ويتحول بين عشية وضحاها إلى مرشد لغيره ومدافع عن الخير؟ سؤال حير الكثير، والإجابة “نعم”.. ألم يقل رب العالمين: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53).
ففي الآية بعث للرجاء في نفوس العباد للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها، وإذا علمت أن المراد بهذا الخطاب المشركين ابتداءً، فما بالك بمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فالرواية تبعث فينا روح الأمل بأن الخير لا زال فيك أنت أيها القارئ، وإياك أن تيأس وتظن الآوان قد فات، نعم، قد فات وقت الغفلة وحان وقت الانبعاث.
مكان البداية ومنزلة البصيرة
إذا استيقظ الإنسان من غفلته، وأورثته تلكم اليقظة فكرة، أعقب ذلك منزلة أخرى، وهي منزلة البصيرة، وقد مثلها الكاتب هنا بـ”مكان بدأ فيه كل شيء”. فالبصيرة عند أهل العرفان نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين “البصيرة ما خلصك من الحيرة إما بإيمان وإما بعيان”.
وهذا ينطبق على حال “مطر”، حيث أراد الخادم أن يريه العدو الحقيقي الذي لا يفتر ولا ينام، يعيش ليله ونهاره من أجل هدف واحد، وهو “لأغوينهم أجمعين”. فيا ترى ما السبب وراء هذه العداوة الشديدة؟ وما سر انتكاس إبليس بعد أن كان من المقربين؟ وما السبب الذي جعل الخادم يُري “مطرًا” هذه الأحداث بالذات؟
الإجابة واحدة، إذ أراد الخادم -وكذا كل شيخ مربّي- أن يعلم مريده دروسًا عملية في الطريق إلى الله، ومنهل الدروس ودستورها البيان الخالد “القرآن الكريم”، ولكن لقراءة القرآن شروط حتى يؤثر في المحل، وأهم الشروط التي علمها لنا الخادم، التدبر ومراجعة الفكرة، وشحذ البصيرة، ومفاتشة الآيات.. وقد علمنا الخادم -وكما قلت آنفا: أنا مطر وأنت مطر، فمطر ممثل للإنسانية جمعاء- عدة دروس:
1-لا حول ولا قوة إلا بالله: فمهما أتيت من أفعال صالحة، أو ترقيت في منازل السائرين أو صُمت أو تزكيت.. فالذي وفقك في كل هو الله، فإياك أن تنسب لنفسك عملاً، فإبليس لم تنفعه كثرة عبادته ولا درجته؛ لأنه ظن أن له حولاً وقوة، وهذا أورثه كبرًا وحسدًا.
2-اعرف عدوك تعرف كيفية النجاة: من المعلوم أن معرفة العدو وقدراته وحيله، تورث لدى من يحاربه قدرة على معرفة كيفية الانتصار عليه، ثم إذا أضيف إلى ذلك معرفة طرق محاربته كان الأمر أنجع.
3-إذا أعطاك ربك فإنه أشهدك البر والكرم، وإذا منعك فإنه أشهدك القوة واللطف، وهو متعرف عليك في كلٍّ. أراد الخادم أن يعلمنا أن الخير الحقيقي لا نعلم أين هو، بل قد يظهر لنا في أمر ما خيرًا ولكنه في حقيقته شر، وقد يجزع الواحد منا إذا أصابه مكروه، ولكن إذا تأملنا وجدنا أن كل أقدار الله خير، ولكن العبرة بمن رزق فهمًا في أقدار الرحيم.
4-لا تيأس وتذكر أن باب التوبة مفتوح: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة:37).
القلب اليقظ قلب رحيم
يعلمنا الخادم معنى الإنسانية، وأنك إذا وجدت إنسانًا أخطأ وأصاب كبيرة فإياك وتحقيره فضلاً عن أن تفضحه، بل الواجب عليك أن تقوم بإنقاذه.. فقد كنت مثله أو قد تكون، فإياك وتحقير الآخر كائنًا من كان، بل ابذل غاية جهدك في مساعدته من منطلق الإنسانية.. لا تدع بابًا من أبواب المساعدة إلا وتطرقه، وتأمل قول سيدنا رسول الله : “بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ، وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره فشكر اللهُ له فغفر له” (متفق عليه).
فهذا غصن شوك، فما بالكم بأفضل خلق الله إذا أخذه الإنسان من طريق الظلمات إلى طريق النور، بل ما أُرسلتْ الأنبياء وخاصة سيدنا رسول الله، إلا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. فالفقر ظلمات، والجهل ظلمات، والاستبداد ظلمات، والتكالب على الدنيا ظلمات، والكبر ظلمات، والخيانة ظلمات، والقتل بغير حق ظلمات، والتعري والفجور ظلمات.. والحب نور، والخير نور، والصدق نور، والعلم نور، والعدل نور.
عرش بلا سلطان
كأن الخادم قد مر على الإمام الغزالي في الماضي وأخذه معه في رحلته إلى النفس؛ فقد صور الإمام في كتابه “إحياء علوم الدين” القلبَ بثلاث صور، منها أن القلب مملكة وحوله جنود وقادة ووزراء. ولكن الغزالي له طابع خاص، وهو الطابع العلمي الذي يمهد فيه للمعاني التي سيخوض فيها وهذا تابع لطبيعة التأليف في عصره، فقام الإمام بتعريفنا بوظيفة الوزير الأول، وهو السيد “نفس” وألقابه التي قد حاز عليها، فمنها اللوامة والمطمئنة والأمارة بالسوء. أما الخادم فقد استعمل نفس التشبيه، ولكنه حدد الوظائف من الناحية العملية، فلم يكتف بالتحديد العام، بل أراد أن يوضح لنا الناحية الإجرائية لكل فرد من أفراد هذه المملكة.
سر الكهف وبداية الانبعاث
أولاً: ما سر الاستعانة بالنوم والراحة في الوصول إلى كهف الغفلة؟
الجواب: إن الواجب على الإنسان أن يروض نفسه رويدًا رويدًا، فالخادم يعلمنا بأن لا نستعجل ونقسو على أنفسنا، بل لا بد من مصادقة النوم والراحة وترويضهما لكي يعملا معنا في الانبعاث واليقظة. فلربما اشتد المريد على نفسه في بداية الأمر حتى أورث نفسه الضجر والملل، وتجلى هذا في أن “مطرًا” أراد أن يحبس السيد نفس في وادي الصيام، فبيّن له الخادم أن هذا خطأ، فالواجب هو الترويض والصبر والمصابرة.
ثانيا: يعلمنا الخادم أن الحقيقة قد تكون أمامك ولا تراها، فأنت يا مسكين قد تذهب لتنقذ آخرين وأنت أولى الناس بالإنقاذ، فإياك في أول الطريق أن تلتفت، وقد قال أهل الله “ملتفت لا يصل”.
أنت مفتاح الخير لنفسك
لما خلقك الله نفخ فيك من روحه، فالمفتاح في يدك أنت، ولكن مفتاح باب قلعتك ليس من الخارج، فهو مفتاح غريب بعض الشيء، فهو من الداخل. فاستعن بمن بيده ملكوت كل شيء حتى تصل إلى هذا المفتاح، فقد يكون أقرب إليك من نفسك وأنت لا تشعر.
إياك أن تسقي رعاياك بماء ملوث
لا بد أن تفاتش نفسك حتى ترى النور بداخلها، فإذا لم تجد النور، فاعلم أنك قد أضعفت جنودك بأن سقيتهم من مياه ملوثة وأطعمتهم أغذية فاسدة. فالخادم يعلمك أن هناك أربعة أنهار تسقي مملكتك، وهي نهر العين، ونهر الأذن، ونهر المعدة، ونهر اللسان. وهذه الأنهار تغذيك أنت وقادتك وخدمك. إياك وأن تغتر بالنصر في معركة واحدة، فالحرب سجال.
قد تفوز في معركة من معارك النفس كما حدث مع مطر، ولكن العدو الأبدي لن يتركك وشأنك، بل سيضاعف عدته وعتاده، وسيحاول أن يفاتش عن نقطة ضعف في حصنك، فلربما أتاك من قبل أقرب الناس إليك، كما فعل مع مطر وزوجه وأمه، ومع مطر وصديقه، ومطر والسكرتيرة.. وإذا كان ذلك كذلك فما الحل؟ الحل الأزلي هو الذكر والفكر، وهما لا يتمان إلا بالخلوة والمجاهدة. وقد مارس مطر الخلوة الأربعينية حتى يصل إلى منزلة الفناء، فلا يرى إلا “هو”، ولا يسمع إلا “هو”.
الخلوة طريق لتحقيق الفناء
قال الحارث المحاسبي: “إن الإنسان إذا عطل ملك السيئات أربعين يومًا، تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه، وعرف أن الطريق هو طريق الحق”.
الخلوة طريق للانقطاع عن كل ما سوى الله، ففيها يقطع الإنسان علائقه بالدنيا وبالناس وبالأحداث والزمان والمكان، فيعطل ملك السيئات أربعين يومًا، وفيها يطبق الإنسان أسرار التأدب مع الله، ويلهج لسانه بالذكر، ومن الذكر يحدث تدرج في النفس البشرية للارتقاء مع الله، فتحدث اللطائف الخمس التي ذكرها أهل الله (القلب، والروح، والسر، والخفي، والأخفى)، وهي مراتب متراتبة بعضها على بعض، وهي في عالم الملك، ومثلها ينعكس في عالم الملكوت، فتنبعث الحكمة من قلبه، ويفتح على الإنسان فتحًا يجعله على يقين لا يتردد أبدًا، فتتحول الأمور إلى مشاهدات بعد أن كانت مسائل.
وهذا ما حدث مع مطر، جاء إليه عدوه الأبدي، لم يستطع أن يدخل له من أي مدخل؛ لأن مطرًا قد شاهد الحقيقة، وأراد العدو اللدود أن يدخله في باب الغرور والكبر، وأن يقول (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص:78)، ولكن من دخل من باب “لا حول ولا قوة إلا بالله” صار قلبه صافيًا كالمرآة لا يتشرب الشبه والوساوس، بل يبصر الحقائق ويستشعر الخطر، ومن دخل من أي باب غيرها، صار قلبه كالإسفنج يتشرب كل شيء وينطبع فيه.
إن الله لا يغير ما بقوم
ضربت لنا الرواية أعظم ملحمة عرفتها الإنسانية، الصراع الأزلي بين قوى الخير والباطل الذي لا يدور على ظاهر الأرض فقط، بل أدخلتنا في المكان الحقيقي للمعركة وهو النفس البشرية؛ فمنها نبعت المعركة ومنها تنتهي إلى الخير أو الشر، ولكنها علمتنا أن كل واحد منا ملك في هذه المعركة، فإما أن يكون حرًّا وسيدًا، وإما أن يتحول إلى أسير ينتظر الموت في أي لحظة ويتمناه مع خوفه الشديد منه.
(*) باحث في لجنة إحياء التراث بمجمع البحوث الإسلامية / مصر.