إذا كان المتنبئون بالأمس يقولون “أَخبِرْنا عن أحلامك نخبرك عن مستقبلك”، فإن أطباء النفس يقولون اليوم: “أَخبِرْنا عن أحلامك نشخِّص لك داءك”. فالبعد النفسي يرى أن الأحلام هي وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغباتها المكبوتة، خاصة التي يكون إشباعها صعبًا في الواقع. إذن، لماذا نحلم؟ وما الذي يحدث داخل الدماغ أثناء الحلم؟
بينت بعض النظريات أن الأحلام تعالج فينا الصدمات النفسية التي نتلقاها في يقظتنا، وهذا ما ذهب إليه “كارل يونج” من أن الأحلام تقدم حلولاً لمشكلات الإنسان في محاولة لإعادة التوازن الداخلي، ومثال ذلك أنه إذا نجا الإنسان من حريق، فإنه غالبًا ما يحلم به في تلك الليلة، وهي وسيلة أودعها اللهُ الإنسانَ لتعينه على سرعة التشافي والعلاج من صدمات الحياة اليومية والتكيف مع حوادث الدنيا، فتخفف عنه وطأة الصدمات والكوارث حتى لا يفقد صوابه.
نظرية أخرى أشارت إلى أن النوم والأحلام طريقة لإعادة ترتيب وتنظيم الملفات في الدماغ وطرح المعلومات التي لا معنى لها، أي أنها بمثابة تنظيف بنك المعلومات في الدماغ، وفيه يتم تنظيم الذاكرة وتقوية الروابط بين المعلومات التي قد نحتاجها مستقبلاً، ويتم التخلص من الذكريات غير المفيدة كي لا يزدحم الدماغ.
ونظرية ثالثة ترى أن الأحلام تعطي الإنسان الحرية في اختبارات وتجارب تصرفات أو مبادرات وسلوكيات يصعب تطبيقها في الواقع، فيقوم الدماغ بالربط بين الأفكار والمشاعر.. والقيام بهذه التجارب في الأحلام دون الخوف، من تبعات هذه المحاولات الجريئة.
وهناك من ذهب إلى أن من وظائف الأحلام كذلك، حراسة النوم ومقاومة أي شيء يؤدي إلى إقلاق النائم وإيقاظه من نومه؛ فإذا أحس الإنسان بالعطش أثناء النوم -مثلاً- فإنه سيرى في منامه أنه يشرب الماء، وبهذا يستمر نائمًا ولا يضطر للاستيقاظ لشرب الماء.
إذن، ما تقوم به الأحلام هو بمثابة رسائل من العقل اللاواعي تختفي وراء أفكار أو صور وقصص خيالية، وهكذا يعمل العقل اللاواعي وتحتاج هذه الرسائل لفك رموزها ليفهمها العقل الواعي.
أحلام الماضي ورؤى المستقبل
غالبًا ما يجول النائم في عالم الأحلام والرؤى، فيشاهد الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا به أحيانًا يرجع إلى صباه، وتارة يرى نفسه شيخًا طاعنًا في السن، وقد يدخل في حرب مدمِّرة مع عدو واقعي أو افتراضي، أو يرى نفسه وهو يعالج سكرات الموت، أو يرى أن لديه ثروة عظيمة ومكانة مرموقة ينعم بكل خير ويعيش بين الورود والرياحين، أو يرى بعض الأحباء الذين يشتاق إليهم من الأحياء أو الأموات، إلى غير ذلك من المشاهدات العجيبة التي يرتاح الإنسان لرؤية بعضها ويتمنى لو أنها طالت واستمرت من دون انقطاع، كما أنه ينزعج أحيانًا من مشاهدة الكثير من الأحلام المهولة والمفزعة التي من الممكن أن تؤرق نومه وتجعله يستيقظ مذعورًا.
الرؤيا واختلافها عن الحلم
يخلط الكثير من الناس بين الرؤى والأحلام. والحقيقة أن هناك اختلافًا واضحًا بينهما على الرغم من أنهما يشتركان في حدوثهما عند الإنسان في منامه. ويعتبر هذا الموضوع وتفسيراته، من الأمور التي تهم كثيرًا من الناس على اختلاف أعمارهم وأجناسهم. وتكاد لا تخلو أيامنا ممن يسأل عن حلم أو رؤيا رآها، ويبحث عن تفسيرٍ لها، وما إذا كانت تأتي بالبشائر أو تُنذر باقتراب المصائب والمشاكل.
يعرَّف الحلم بأنه ما يشاهده الإنسان في منامه من مشاهد لأحداث تشتمل على أماكن وأشخاص قد تمتّ للواقع بصلة، وقد لا يكون لها صلة به، وهي مجرد خيالات وانعكاسات للعقل الباطن الذي يعمل بقوة وبنشاط عندما يغيب عقل الإنسان ويدخل في مرحلة الراحة.
أما الرؤى فتختلف اختلافًا جوهريًّا عن الأحلام، من حيث إنها تنقسم إلى قسمين؛ قسم يشترك فيه الناس كافة، وهي الرؤى العامة، والمثال عليها رؤيا ملك مصر التي فسرها سيدنا يوسف عليه السلام فتحققت على أرض الواقع، ومنها الرؤيا الصالحة، حيث إنها تعتبر من المبشرات التي تحدث عنها الله تعالى في كتابه كفضيلة امتن الله بها على المتيقن، فقال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)(يونس:64). وقد ورد في القرآن الكريم ذكرٌ لعدّة رؤى؛ كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا عزيز مصر، ورؤيا إبراهيم عليه السلام.
هل الأحلام إشارات من المستقبل؟
يحفل التاريخ بالكثير من الحوادث والوقائع التي قد تثبت إمكانية التنبؤ بالمستقبل، ومن أشهر القصص التي تؤكد ذلك رؤيا عزيز مصر للسبع بقرات المشهورة والتي كان لها أثر واضح على اقتصاد مصر لوقت طويل، ورؤيا السجناء الذين كانوا مع سيدنا يوسف في السجن، وقد فسرها سيدنا يوسف وتحققت الرؤيا بأن أحدهم صلب، والآخر أصبح خادمًا عند الملك.
ولم تتوقف قصص الأحلام التي تنبأت بالمستقبل عند هذا الزمن، بل توجد عديد من الأحلام التي تحققت في الواقع في العصر الحديث، من هذه الأحلام موت العالم ابن سيرين الذي اشتهر بتفسير الأحلام؛ حيث جاءته سيدة تروي له حلمًا يخصه، وما إن سمعه حتى تغيرت ملامحه، فسألته أخته فقال لها إن هذه المرأة تدعي بأني سأموت بعد سبعة أيام. وبالفعل مات ابن سيرين وتم دفنه في اليوم السابع.
أحلامك وسيلة للتعلم وحل المشاكل
في الأبحاث الأخيرة للبروفيسور “روبرت ستيكجولد” وجد أن النائم يتعلم وهو نائم. أجل، فأنت تعمل على اكتساب مهارات معينة وأنت متيقظ -سواء في دراستك أو في عملك- وعندما تنام يبدأ عقلك البحث في ذكرياتك عما يمكن أن يفيدك لصقل هذه المهارات.. ويظهر ذلك من خلال أحلامك؛ فقد تحلم وترى مشاهد ترتبط بمهاراتك تلك، بالإضافة إلى مزجها بذكريات أخرى مخزنة في مخك. هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقلك لكي يجعلك تتعلم وأنت نائم. وعندما تستيقظ قد تلحظ تحسّنًا ملحوظًا في أدائك، لأن مخك أتم مهمته وأنت نائم.
وقد أجريت دراسات لمعرفة مدى سيطرة الحالم على نفسه جسمانيًّا؛ فعرض الدكتور “ريخنتشاف” مكافآت مالية للمفحوصين لكي يطيلوا الوقت الذي يحلمون فيه، فلم يستطع أحد منهم ذلك إطلاقًا، مما يدل على أن دورة الأحلام مستقلة عن أي تحكم شعوري.
لكنك تستطيع أن تحلم بما تريد. نعم، إذا ركزت قبل نومك في أنك تريد أن تحلم بشيء معين أو مشكلة تود حلها، فربما تجد الحل في أحد أحلامك، ولقد أثبتت هذه الطريقة نجاحها على 50% ممن طبقت عليهم التجربة، بل ووجدوا حلولاً لمشاكلهم من خلال أحلامهم أيضًا.
بحثت الدكتورة “ديردرا باريت” أيضًا في الكيفية التي تساعدنا بها الأحلام على حل المشكلات المختلفة، فوجدت أن الأحلام هي الفرصة الأنسب لإيجاد الحلول المناسبة لتلك المشكلات، حيث تمكننا من رؤية الأمور بشكل أوضح أثناء الحلم.
إذن، أحلامك هي وسيلة لتتعلم وأنت نائم، تحل مشاكلك وربما تصبح مكتشفًا أو عالمًا.
هل الأحلام تعبر عن هوية الإنسان؟
يمكن التعرف على شخصية الإنسان من خلال عديد من الجوانب، فكل تصرف قد يعكس طبيعة الشخصية بحسب خبراء علم النفس، حتى إن الأحلام تدخل ضمن هذا الإطار، لأنها تعدّ مرآة الروح إلى العقل الباطن، وذلك وفق ما ذكرته مجلة “ريدرز دايجست” نقلاً عن دراسات علمية.
وقد رصدت جريدة “الإندبندت” البريطانية دراسة قام بها مجموعة من الباحثين في مجال علم النفس بجامعة “ستوكهولم” للكشف عن طبيعة أحلام الأشخاص وسلوكياتهم أثناء فترة النوم. وقد اعتمد البحث على دراسة سلوك الأشخاص أثناء النوم، واشترك في هذه الدراسة ألف شخص، حيث قام الباحثون بدراسة سلوكياتهم وتحركاتهم والأصوات التي يصدرونها أثناء فترة النوم، وأيضًا مقارنة تصرفات الشخص وهو مستغرق في النوم بسلوكياته عندما يكون مستيقظًا.. فكانت النتيجة هي أن الأشخاص الذين يحلمون أثناء نومهم دائمًا بالسفر والترحال وزيارة الأماكن الجديدة أكثر انفتاحًا على الحياة، ويتمتعون بعلاقات اجتماعية جيدة جدًّا. أما الأشخاص الذين يعانون من تكرار رؤية الكوابيس، فهم أشخاص انطوائيون ويشعرون بالوحدة دائمًا.
وبحسب الدراسة، فإن الأشخاص الذين يرون في منامهم أنهم ينتحرون ويموتون دائمًا، أو أحد الأشخاص المقرب منهم يموت، أو يرون مشاهد الدفن والحزن والصراخ، أو يشاهدون الحرائق في المنام.. هؤلاء الأشخاص يعانون من اضطرابات دائمة في حياتهم، وهذا يدل على بداية دخولهم في مرحلة اكتئاب مرضية، لذلك عليهم أن يتوجهوا إلى الطبيب النفسي.
أحلام غيرت العالم
سوف تندهش إذا علمتَ أن الأحلام كانت هي السبب الرئيسي في حصول اثنين من الحالمين على جائزة نوبل. كما كانت الأحلام هي الدافع وراء العديد من الأحداث السياسية الهامة، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الروايات والقصص والأفلام السينمائية الشهيرة. ويقال إن الجدول الدوري للعناصر الكيميائية قد جاء إلى العالم الروسي “ديمتري مندليف” في أحد أحلامه. كذلك فإن المخترع الأمريكي “إلياس هاو” قد اخترع أول ماكينة خياطة من فكرة استوحاها من أحد أحلامه. أما الكاتبة “ماري شيلي” فقد رأت أحداث روايتها الجديدة “فرانكنشتين” في أحد أحلامها. ويورد الكاتب “روبرت لويس ستيفنسون” أن معظم مكائد قصصه كانت تأتيه في الأحلام.
وقد أورد الأستاذ عبد الرازق نوفل -رحمه الله- في كتابه “القرآن والعلم الحديث” ما يلى: وقرر كثيرون أنهم قاموا بأروع أعمالهم عندما شاهدوها في أحلامهم، مثل الموسيقار “آرثر سيمور سوليفان” الذي ألف أغنيته المشهورة “النور الساطع” في نومه، “وجوثيب تارثيني” الذي يقول إنه سمع في نومه كأن الشيطان يغني، فما إن صحا من نومه حتى كتب اللحن وسماه “أغنية الشيطان”. والرياضي “هنري بوانكاريه” رأى معادلات جبرية أدت إلى اكتشافه قانونًا هامًّا رياضيًّا.
عجز العلماء
إن ما يراه الإنسان النائم من رؤى، وما يأتيه من أخبار وأوامر، تعتبر من الألغاز القديمة والتحديات الباقية للعقل البشري ولكل ما أوتي الإنسان من وسائل المعرفة والبحث.. ولا تزال الأحلام خافية حتى على العلماء ذوي الاختصاص. نعم، لا زالت إلى الآن، وباعتراف الكثير من العلماء ذوي الاختصاص، يجهلون حقيقة الرؤى والأحلام، لذا فإنك ترى أن نظرياتهم العلمية مختلفة في تفسير مشاهدات الإنسان أثناء نومه.
وقد شرَّق المحللون وغرَّبوا بحثًا عن أسباب الأحلام وماهيتها، ورغم أن الإنسان يقضي ساعتين في الأحلام كل ليلة (أي ما يعادل حوالي ستة أعوام خلال حياته)، إلا أن عالم الأحلام ما زال من أكثر الأمور غموضًا بالنسبة لنا. إنه عالم كان -وما زال- مثار اهتمام الإنسان على مر العصور والأزمان.
ويتابع العلماء بأجهزتهم ومراقبتهم الشخصية ما يحدث أثناء النوم فلا ينتهون إلى شيء، غير تسجيل بعض التغيير في النشاط الكهربي للدماغ، وبعض التغيرات في نبض النائم وتنفسه وبعض عضلاته، وغير ذلك مما لا يعطي أدنى فكرة عن طبيعة ما يراه النائم أو عن أسبابه، ويستمر التحدي.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.