بعدما خالف الرماة أوامر رسول الله في غزوة أحد وتركوا أماكنهم إلا من رحم ربك، فُتحتْ ثغرة في صفوف المسلمين، لم يفوتها قائد عبقري مثل خالد بن الوليد، عندما وقعت عليها عيناه فقرر استغلالها، فباغت المسلمين في هجوم مفاجئ، واستطاع أن ينال من صفوفهم نيلا شديدًا، ويفتح فيهم الثغرات تلو الثغرات، حتى وصل الأمر إلى حصار الرسول ﷺ وشيوع نبأ استشهاده، وهنا ظهرت بطولات الصحابة العظيمة وتضحياتهم الغالية فداء لحبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولندع الأستاذ كولن في النور الخالد يحدثنا عن هذا الموقف ونموذج من البطولة والتضحية والفداء فيه: “…فتحت ثغرة أخرى. أجل، فكل مصيبة تُنسي المصيبة السابقة، فكأن المصائب بدأت تأتي وهي تتضاعف وتتزايد، فالمصيبة الأخرى التي كانت أعظم من كل المصائب السابقة كانت حصار المشركين لرسول الله ﷺ وانتشار نبأ استشهاده. وقع هذا النبأ كصاعقة أنست جميع المصائب السابقة. ولكن الله سلم إذ التف حول الرسول ﷺ جدار حصين من اللحم والعظم من المسلمين الذين سمعوا صوته قبل وصول الأعداء إليه. فكم من امرأة تحمل في يدها قرب الماء أو ضماد الجرحى خرجت لسقي المسلمين ومداواة جرحاهم أسرعت لنجدة الرسول ﷺ كانت أُم عُمارة رضي الله عنها على رأس هؤلاء النسوة تسقي المسلمين وتضمد الجرحى. كان المنظر الذي رأته يجمِّد الدم في العروق.. كان الحصن المكون من اللحم والعظم حول الرسول ﷺ يتساقط شيئًا فشيئًا والأيدي الخائنة تتقدم نحوه خطوة فخطوة. كان واضحًا أنه من المستحيل الوصول إلى الرسول ﷺ قبل أن يُقطَّع هذا الحصن من اللحم والعظم أشلاءً وقطعًا.. كان كل سيف حاقد يُسلُّ للنيل منه، وكل سهم حانق يُرمى في اتجاهه وكل رمح يُصوب نحوه، ولكنها جميعها كانت تصطدم بجسد مؤمن من المؤمنين المحيطين به، وجاءت لحظة لم يبق هناك ذراع لم تُبتر أو رأس لم يُقطع وبدأت جماعة من المشركين الحانقين يتقدمون نحوه، فقال الرسول ﷺ “من لي بهؤلاء؟”، فرمت نسيبة رضي الله عنها ما بيدها وهرعت إليه قائلة: “أنا يا رسول الله!”.
أخذت نسيبة موقعها في موقف الدفاع عنه وبدأت تذب عنه بسيفها ذات اليمين وذات الشمال، كانت قد أتت لمداواة الجرحى ولكن عندما اشتد الخطب انقلبت إلى فارسة كاسرة، وبينما كانت تذب بسيفها عن الرسول ﷺ رأت ابنها وقد بترت ذراعه بضربة سيف، فأسرعت نحوه وربطت جرحه ثم قالت له: “اذهب فقاتل أمام رسول اللّٰه” ثم رجعت إلى مكانها، كانت تقاتل قريبة من الرسول ﷺ حتى إنها كانت تسمع همسه، ثم أصيبت بجرح غائر وعميق في ظهرها، كانت قد أرسلت ولدها للقتال وها هي تقاتل بالقرب من الرسول ﷺ ، فلما رآها الرسول ﷺ جعل يقول لها: “ومن يطيق ما تطيقين؟” فقالت له: “ادع الله أن يجعلني معك يا رسول اللّٰه!” فدعا الرسول ﷺ ربه أن يجعلها معه في الجنة، فلما سمعت بدعاء الرسول ﷺ لها قالت ما أبالي ما أصابني من الدنيا. كانت حياة هذه الصحابية سلسلة متصلة من المفاخر، فقد بايعت النبي ﷺ في العَقَبة ودعته إلى المدينة، وكانت سببًا في إسلام أفراد بيتها جميعًا، وقاتلت أمام النبي ﷺ في أُحد، وواجهت الموت في سبيله مواجهة الأبطال.. وعندما نـزلت آية الحجاب حزنت لأنها رأت أنها لن تستطيع الاشتراك في الجهاد الفعلي بعد ذلك، وعندما ظهر الأنبياء الكذبة اشتركت في معركة اليمامة وتركت هناك ذراعها وابنها وعادت. أجل، لقد عاشت مراحل صعبة تفوق طاقة أي امرأة.”.
فرضي الله عنها وأرضاها، وجمعنا الله بها في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.