إن القيم تصنع النسق الأخلاقي للشخصية التي يهدف الإسلام إلى صناعتها، ولذا بعث الله تعالى نبيه لأجل غايات مهمة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الجمعة:2).
إن تزكية النفوس وتطهيرها بالإيمان وتعليم المؤمنين، من المهام الجليلة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتحقق ذلك إلا بتعليم القيم الأخلاقية وتربية الناس عليها، قال صلى الله عليه وسلم: “بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق” (رواه الإمام أحمد). وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، والرحمة من القيم العليا في الإسلام، وهي من صفات الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(الأعراف:156).
وما من نعمة أنعم الله بها على عباده -عامة كان أو خاصة- إلا وهي أثر من آثار رحمته كالصحة، والمال، والزوجة، والأبناء الصالحين.. كلها من رحمة الله تعالى.
إن الله يحب من عباده أن يكونوا على صفته، رحماء فيما بينهم، فيعطف كبيرهم على صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، ويواسي غنيهم فقيرهم، ويعين قويهم ضعيفهم، ويرشد عالمهم جاهلهم، ويرى الأبناء رحمة الآباء، والتلاميذ رحمة المعلمين، والمرضى رحمة الأطباء.
وكما أوجب الله تعالى على الإنسان أن يرحم أخاه الإنسان، أوجب عليه أيضًا أن يرحم الحيوان؛ لأن الرحمة أثر من آثار الإيمان، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” (رواه الترمذي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لا يَرحم لا يُرحم” (متفق عليه).
إن قيمة الرحمة تحتاج إلى من يفهمها ويبلورها في مجال العلاقات الإنسانية والحياتية في مجال التوجيه والدعوة وفي الخطاب الذي يوجه للآخر.
والإسلام لم يبن المجتمع بالتشريع وحده، وإنما بناه من خلال التربية وتحويل العبادات إلى قيم تسمو بالإنسان، وسلوك يزكي النفس. إن سنَّ القوانين والتشريعات يحتاج إلى نوع من التأهيل والتربية الأخلاقية للمجتمع، حيث تعدّ تلك التربية من الضمانات العلمية التي تعمل على احترام القوانين والتشريعات. إن الإسلام لم يأت فقط لعلاج المنحرفين، بل ركز على تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق.
قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)(الرحمن:1-2)، لماذا لم يقل الجبار أو القهار وقال الرحمن؛ حتى يعلمنا أن التعليم والتربية لا يقومان على الإكراه أو القهر أو التعالي أو التحقير أو غير ذلك من الأساليب الخاطئة في التعليم. وإنما يقوم التعليم على الرحمة بين العالِم والمتعلم، والخاصة والعامة، والأساتذة والتلاميذ بين الآباء والأبناء؛ لأن التعليم والتربية بحاجة إلى الحب والرأفة والرحمة والمودة.
إن قيمة الرحمة تحتاج إلى من يفهمها ويبلورها في مجال العلاقات الإنسانية والحياتية في مجال التوجيه والدعوة وفي الخطاب الذي يوجه للآخر. ولذا فإن قيمة الرحمة تحتاج إلى بلورة وترجمة عملية في محيط الأسرة في التعامل مع الأولاد؛ دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبّل الحسنَ والحسين رضي الله عنهما، فقال تقبلون الصبيان فما نقبّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أوَ أملك لك أن نزع الله من قبلك الرحمة” (متفق عليه).
عندما تقبّل ابنك أو ابنتك، تشعره بالمودة والحنان والدفء، وتشبع رغبة وحاجة بداخله، مما يسهم في تنشئته تنشئة سوية، ويجعل شخصيته إيجابية ينشأ وهو محب للحياة والأحياء، وهو يستشعر قيمة الرحمة. إن التعامل مع الكبير يحتاج إلى الرحمة التي تتمثل في مظاهر عدة، لعل من أبرزها احترامه وتقديره، وإكرام ذي الشيبة، وإنزال الناس منازلهم.
والرحمة تملي على الإنسان احترام الكبير والصغير، والحرص على معاملة الناس بما يحب أن يعاملوه به.
إن حاجه المجتمع اليوم إلى استعادة منظومة القيم، تملي علينا أن نتعاون في إحياء الفضائل؛ إن نبي الله موسى عليه السلام عندما ورد ماء مدين -(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)(القصص:23)- كان المجتمع آنذاك يقوم على القوة والبطش، ولا يقيم وزنًا للمرأة فهي مهضومة مظلومة. ماذا فعل موسى عليه السلام:( قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)، لقد بدأ موسى عليه السلام بنفسه فتولى مهمة التصدي للواقع (فَسَقَى لَهُمَا).
وهذا يؤكد على دور العلماء والدعاة أن يبادروا إلى تحويل القيم إلى سلوكيات عملية. إن التغيير في الأنماط السلبية في التعاملات الحياتية، يحتاج إلى شجاعة وإقدام وأخذ لزمام المبادرة.. فأنت بصفتك إنسانًا أليس لك بنات، أو بنات أخ، أو بنات أخت؟ هل لك أن ترعى أو تسهم في رعاية هؤلاء، أو تقدم لهم معونة، أو تسهم في علاج مريض، أو تصحيح فكر إنسان ضال؟ أليس بإمكان الإنسان أن يرحم مَن حوله من الناس حسب أحوالهم؟ ماذا فعل سيدنا موسى عليه السلام؛ سقى لفتاتين (ابنتي شعيب عليه السلام).
إن تزكية النفوس وتطهيرها بالإيمان وتعليم المؤمنين، من المهام الجليلة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتحقق ذلك إلا بتعليم القيم الأخلاقية وتربية الناس عليها.
إن أبواب الخير مفتوحة على مصاريعها، فاستطاعة الإنسان أن يتراحم وأن يساعد في إحياء قيمة الرحمة، لأن حياتنا التي نحياها غاضت فيها ينابيع الرحمة والمودة، حتى الزواج الذي جعله للسكن والمودة والرحمة، تحوَّل إلى عملية ميكانيكية في حياة فئات غير قليلة من الناس لا مجال فيها لقيمة الرحمة بكل معانيها، سواء بين الزوجين، أو بين الآباء والأبناء عملية متبادلة، جفاء وقسوة، جُزُر منعزلة، صلات تقوم على تلبية الاحتياجات المادية بالدرجة الأولى.
في حالات كثيرة، تبدو سلوكيات الإنسان في البيت وفي الشارع وفي العمل، تفتقد إلى معاني الرحمة، والواجب التخلق بخلُق الرحمة، سواء في مجال التعامل مع عالم الإنسان، أو عالم الحيوان، أو عالم النبات والبيئة بكل ما فيها. إن الرحمة التي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيقها، عمّت جميع المخلوقات: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107).
وينبغي أن يكون المسلم رحيمًا حتى مع المخالفين فيتمنى الهداية لهم، لأنه ليس من الرحمة أن ندعو على المخالفين في الدين، أو نلعنهم، أو نتمنى لهم المصائب.. إننا بحاجة إلى حوار موضوعي تتجلى فيه آثار الرحمة، من خلال التركيز على المشتركات الإنسانية وليس على العقائد؛ لأن اختلاف الناس إرادة إلهية، وسنة من سننه سبحانه. ولو أراد الله أن يجمع الناس على دين واحد، أو مذهب واحد لفعل، ولكن شاء الله أن يختلف الناس اختلاف تنوع وثراء وتعدد، مما يؤكد الحاجة إلى جعل الاختلاف سبيلاً للرحمة وللائتلاف بدلاً من الخلاف والتعصب والغلو والتطرف الذي أخذ فئات من الناس إلى التكفير والتفجير والتفسيق والتبديع.
إن قيمة الرحمة تحتاج إلى فهم يحوّلها إلى سلوك يمنع الناس من ردودهم على بعضهم واختلافهم في مسائل فرعية تتحملها دلالات النصوص. إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، سواء على مستوى العلاقات في محيط الأسرة، أو ميادين الحياة.
(*) الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية السابق / مصر.