تبقى القوة الإجرائية والتفاعلية لأي مفهوم من قوة المرجعية التي يستمد منها المفهوم، ومن مدى تماسك ونسقية مكونات هذه المرجعية من حيث تكامل وظائفها وتحقق مقاصدها، في جلب النفع والسعادة والمصلحة للإنسان، ودفع الضرر والشقاء والمفسدة عنه.
وليس ثمة مفهوم يستند إلى جهد بشري موسوم بالنسبية والقصور، بقادر على النهوض بكل تلك المهام، لإسعاد الإنسان في حياته الدنيا أو العاجلة، بله إسعاده في حياته الآخرة أو الآجلة. لذلك تبقى المرجعية الدينية في ثقافتنا الإسلامية -باعتبارها وحيًا مطلقًا مستوعبًا للزمان ومؤطرًا للإنسان- أولى من غيرها في هذا السياق وفي كل سياق.
من هنا تأتي أهمية هذه المقالة، أي في إحالتها لمفهوم الأسرة على القرآن وليس التاريخ، على المطلق الكلي وليس على النسبي الجزئي. ولو أن كل مفاهيمنا المكونة لثقافتنا وعلومنا ومعارفنا وآدابنا أعيد بناؤها على هذا الأصل، لكان حالنا غير هذا الحال قطعًا. إن من سنن الله تعالى في خلقه والتي فطر عليها مخلوقاته؛ الأداء والإنجاز الجماعي للكائنات حية أو جامدة، عاقلة أو غير عاقلة، يتضح ذلك من أبسط تأمل في آيات الأنفس والآفاق. وهذا الأداء والإنجاز الجماعي، هو ما يمكن تسميته بالعمل “المنظومي” الذي تتداخل وتتكامل فيه الوظائف العامة والخاصة.
وهذا الأمر، كما يحدث في البنى والأنساق الاجتماعية، يحدث كذلك في البنى والأنساق الفكرية والثقافية، والعلمية والمعرفية. وهو الذي نسعى إلى بيان جزء منه في مجال القيم القرآنية عمومًا، وتلك المتعلقة بالأسرة خصوصًا.
1- منطق الاشتغال المنظومي للقيم في القرآن
بناء على ما تقدم، فإن القيم والمفاهيم في القرآن عمومًا، تبقى منظومة تشتغل وفق منطق ونظام خاص هو من سنن الله الدينية الشرعية المعادلة أو المكافئة لسننه الكونية القدرية. بمعنى أكثر وضوحًا، إن آيات الله تعالى في كتابه المسطور، معادلة من حيث نظامها واتساقها، موقعًا ودلالات لآيات الله الكونية القدرية في مواقعها في الفضاء الكوني أو الكتاب المنظور، كما قال الله تعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(الواقعة:75-78). فنجد لكل مفهوم قيمة في القرآن الكريم؛ حركة أو وظيفة ذاتية لا يقوم بها إلا هو، وحركة أو وظيفة تشاركية أو تفاعلية يقوم بها مع غيره في سياق تكاملي للوظائف. والحركتان معًا -الذاتية والتفاعلية- تتمان في نفس الوقت بشكل نسقي متواز. وهو عمل أشبه ما يكون بأعضاء جسد الإنسان، أو قطع غيار محرك ما؛ فكل عضو في الجسد، يقوم بوظيفة خاصة لا يمكن أن يقوم بها غيره. وتأمل هنا عمل القلب أو الكبد أو الرئة أو غيرها، ثم وهو يقوم بهذه الوظيفة، لا يستطيع أن يقوم بها مفردًا مستقلاًّ، فلا بد له من شبكة علاقات تفاعلية مع الأعضاء الأخرى إمدادًا واستمدادًا. وتأمل قطعة محرك؛ أيًّا كان حجمًا ومجالاً، فلا قطعة تنوب عن غيرها، ولا هي بقادرة على الاشتغال دون دعم وسند غيرها، بل تلَف قطعة واحدة ضمن عشرات أو مئات القطع، يعطّل عمل المحرك أو يضعفه إضعافًا بحسب دورها المحوري الأساسي أو الثانوي التكميلي.
إن اشتغال القيم والمفاهيم عمومًا في القرآن الكريم هو أدق وأشمل من الصور التقريبية التي أشرنا إليها، حتى قيل إنه كلمة، وبنية، ونسق، ونظام …إلخ. فأصل التوحيد أو الإيمان -مثلاً- أصل مهيمن، ولنقل بتعبير بعض الكتاب: قيمة عليا حاكمة. المفروض أن يكون له حضور في سائر المفاهيم الأخرى، يزودها بالمعنى ويحدد وجهتها وقبلتها، ويسدد كثيرًا من آليات اشتغالها.لكن للأسف، ضمر هذا الأصل وانحصرت معانيه ودلالاته في التداول التاريخي، حتى لم يبق لها حضور في مجالات العلم والمعرفة والمجتمع فلحقها من الآفات ما لحقها. ومثلُ التوحيد الاستخلاف والتكريم والعدل والتزكية والحرية والإخلاص والإحسان وغيرها، من حيث استقلالها بمعنى وتكاملها من خلاله مع سائر المعاني الأخرى.
ولهذا كان النظر الجزئي المفرد لبعض المفاهيم -بمعزل عن شبكة علاقاتها وسياقاتها- من أخطر الآفات التي أصابت كثيرًا من الدراسات وهي تحاول إبراز المنظور الإسلامي لقضية ما، كقضية الأسرة أو المرأة أو الإرث أو المساواة، وكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها. وهذا المنهج هو الذي عابه القرآن الكريم نفسه على (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:91)، أي أجزاء وقطعًا، أو أعضاء وفرقًا. وإن كان السياق واردًا في الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، فإنه -منهجيًّا- عام على كل عمل انتقائي يخل بشرط الوحدة البنائية والنسقية التكاملية بين سائر مكوناته.
2– الأسرة والتكامل الوظيفي للقيم
إن الأسرة وإن لم ترد لفظًا في القرآن الكريم، لكنها المرادة عمومًا بألفاظ أخرى؛ كالآل والأهل، وأحيانًا العشيرة إذا اتسعت الدائرة قليلاً. وقبل النظر إليها وحدة مستقلة، لا بد من النظر إلى موقعها ضمن القيم الكلية المؤطرة؛ فهناك شبكة قيمية مؤطرة ولاحمة بين هذه الدوائر، تحفظها من التفكك والنزاع، وتقوم السلوك والأفعال والأقوال، وتحفظ العدل والأخوة والمساواة، وما إلى ذلك.
وبما أن الأسرة -في مبتدأ الأمر ومنتهاه- رجال ونساء وأبناء وعلاقات، فمفهوم الاستخلاف يتوجه على هؤلاء جميعًا، ومفهوم التكريم يشملهم جميعًا، وخطاب الإيمان والتكليف يعمّهم جميعًا كذلك، والعدل والإنصاف والمساواة والتقوى والورع متوجهة إليهم جميعًا.
هذا فضلاً عن قيم أخرى ذات طبيعة تكافلية تضامنية، تقوي وتعضد من وشائج الأخوة والعلاقات بين الناس عمومًا، والأزواج فيما بينهم والآباء والأبناء؛ كالمودة والرحمة والبر والإحسان والإيثار والإخلاص وما إليها.
فمفهوم الأسرة محوط بشبكة قيمية داعمة مؤطرة وموجهة، والفرد في الأسرة، والأسرة في المجتمع، دوائر تراتبية منفتحة على بعضها، يكون أدناها رافدًا لأعلاها، وأعلاها خادمًا ومحافظًا على أدناها، وفي كل مستوى من هذه المستويات تتحدد وظائف ومسؤوليات، وتترتب حقوق وواجبات. فمفهوم الأسرة قائم أساسًا على فلسفة التكامل الوظيفي المراعي للخصوصيات والأدوار، تؤدي فيه كل دائرة وظيفتها الخاصة الذاتية، ووظيفتها العامة التشاركية والتفاعلية.
ولهذا فعدم إدراك الفرد -رجلاً أو امرأة- لوظائفه الخاصة كذات فاعلة، ولوظائفه العامة كذات متفاعلة، وللقيم المؤطرة لهذا المستوى وذاك، يوقع -لا محالة- في التنازع وتترتب على ذلك مطالب تؤسس للخلاف والنزاع أكثر من الوئام والوفاق كما سنبين لاحقًا. أي تنتهي إلى نقيض المراد والقصد من القيم ذاتها، المرتبطة بالإنسان كذات وكيان، أو بالأسرة كوظيفة.
فكل مفهوم قيمة إذن، لبنة أساسية في هذا الجدار، ويمكن الحديث عن قيم هي أصول وكليات، وعن قيم هي فروع متممة على نحو ما تقدم، كما يمكن الحديث في تصنيفات أخرى للقيم، عن قيم روحية نفسية، وعن قيم سلوكية تربوية، وعن قيم مادية وأخرى معنوية.
وتبقى القيم عمومًا، ضرورة وجودية تؤسس للحالة السواء النموذجية أو المثالية المعيارية في الأسرة، انطلاقًا من بناء كل فرد فيها بما يؤهله للأداء الجماعي، فاللبنة الهشة في الجدار قد تكون سببًا في سقوطه، أو على الأقل منفذًا لعلل وآفات كثيرة. فلا يكون مصلحًا من لم يكن صالحًا، ولا مقيمًا للعدل والإنصاف مع غيره من لم يقم ذلك مع نفسه، ولا مؤمنًا بحرية غيره من لم يدرك حدود حريته، ولا بحق وواجب غيره من لم يدرك حق وواجب نفسه.
فالقيم تؤسس للكينونة المبررة للوجود، وللمعنى والغاية والقصد من الإيجاد، وضمن هذا الفضاء تتأسس وتتحدد الوظائف والواجبات والمسؤوليات. ومنظومة القيم من شأنها أن تدرأ آفات التمركز والتحيز والنزاع والصدام، التي هيمنت الآن على كثير من النماذج الأسرية، بل تحولت إلى نظريات واتجاهات فكرية كما في كثير من النماذج التي تقدمها دول غربية اليوم للأسف.
3- درء آفات ومخاطر التفكك القيمي
المراد أولاً بالتفكك القيمي، هو ضرب البنية النسقية الكلية، والتكامل الوظيفي بين مكونات الأسرة، بحيث تنفرط النواظم الجامعة والموحدة والقيم اللاحمة بينها، ويحل محلها اعتبار الفرد والذات أكثر من الجماعة، فتنشأ المطالب الخاصة في الدوائر الضيقة دون اعتبار للمصلحة العامة، بل قد يتضخم الأمر إلى حد التمرد عليها وتجاوزها كما هو الحاصل في كثير من النماذج الغربية. ولهذا الأمر -طبعًا- ما يبرره في سياق تطور الحضارة الغربية التي انتقلت من تطرف لاهوتي خرافي كان يحكم باسم الدين، إلى تطرف مادي علماني يحكم باسم الدنيا فحسب، أي باستبعاد كلي أو جزئي لقيم الدين وتعاليمه، حيث تم تنصيب آلهة جديدة، كالعقل والعلم والطبيعة والحس والتجربة.
لتعرف بذلك هذه الحضارة تطورًا إلى ما هو أخطر بعد عصر النهضة والأنوار إلى الحداثة وما بعدها، حيث وقع التمرد على كل شيء، بما في ذلك تلك المبادئ الأصول والأسس، التي بني عليها الانتقال من مرحلة اللاهوت والخرافة إلى مرحلة العلم والدولة، ثم إلى العدمية والعبثية واللامعنى والثورة والتمرد على كل شيء. وبتعبير بعض النقاد؛ الانتقال من الحالة الصلبة التي تستند إلى مبادئ كلية كالعلم والعقل والمادة، إلى الحالة السائلة التي لا يمكن الإمساك بها على أساس معين؛ حالة اللامعنى والمتعة والاستهلاك، والإنتاج، والهيمنة والتوسع، التي هيمنت على العلوم والمعارف والسياسات المختلفة.
في هذا السياق وعلى مستوى البنيات الاجتماعية، وقع تضخيم كبير للذات والـ”أنا”، والتوجهات الفردانية والمتع اليومية، وتدخل منطق الإنتاج والاستهلاك لتوجيه الأذواق والأحلام والرغبات، فتضخمت بذلك المطالب والحقوق الفردية والنزعات المتمركزة حول الذات، ونشأت مفاهيم ودلالات سائلة غير منضبطة حول الحرية والحق والذات والإشباع، حيث هيمنت قيم الصناعة بديلاً عن قيم الفطرة والكينونة، مبنية على التقابل وليس التكامل، وعلى النزاع والصراع وليس المودة والرحمة.
كان هذا -طبعًا- مدخلاً مؤثرًا بقوة على تماسك الأسرة كبنية ووحدة داخل المجتمع، وعلى وظائفها ذات الطابع التكاملي، وعلى القيم الضرورية اللاحمة بين عناصرها. فأصبح للمرأة مطالب وحقوق مفردة، وللرجل مطالب وحقوق مفردة، وللأطفال مطالب وحقوق مفردة -صغارًا وكبارًا- وتحول المجتمع إلى أقليات متعددة لكل منها مطالب وحقوق -النساء، الرجال، الأطفال، العجزة- كما ظهرت تشكلات أسرية جديدة مثلية بين رجال أو بين نساء، أو مع حيوانات، وتحولت إلى كتل ضغط إعلامي وسياسي وحقوقي، لانتزاع حقها في التواجد القانوني.
عمومًا، هنالك هيمنة لقيم بديلة تلبي نزعات التملك وليس الكينونة حسب تعبير الناقد إيريك فروم. وفارق كبير بين أن تكون وتملك، وبين أن تملك دون أن تكون. ولا نلقي اللوم هنا على النموذج الغربي وحده مهما كان نافذ التأثير، فالأخطاء الذاتية التاريخية أكثر من أن تحصى. فقبل الاحتكاك بهذا النموذج، وقع انعطاف وتحول كبير عن القيم القرآنية الموجهة لحياة الأفراد والجماعات، ونشأت عادات وتقاليد من التداول الاجتماعي عبر التاريخ، فالتصق كثير منها بالدين وتقرر وكأنه دين. وكيف تكون دينًا وفيها من الظلم والجور والتسلط والعدوان، ما جاء الدين لإصلاحه وتقويمه أصلاً. إن الشرع قد راعى الأعراف، لكن ما لم تعد على أصوله بالإبطال كما هو مقرر عند العلماء. وكل ذلك يستوجب مراجعات ذاتية تصحيحية تنطلق من الوحي المطلق المعصوم وليس من التاريخ النسبي المتغير.
خلاصــــة
لسنا هنا بصدد المقارنة بين نموذجين، بل بصدد النظر في القيم الموجهة لبناء أسرة هي وحدة أساسية في بنية المجتمع. وسواء كان الخلل ذاتيًّا أو خارجيًّا في تمثل النموذج السوي، فإنه يبقى حاكمًا ومهيمنًا على غيره. ونعتقد أن مفهوم الأسرة في القرآن الكريم، إذا ما أحسن عرضه ابتداء من أصل التكريم لبني آدم، وانتهاء إلى أدوار الهداية والرحمة والشهادة على الناس بالحق والعدل التي ينبغي أن تقوم بها الأمة، من شأنه أن يقدم حلولاً لمشكلات كثيرة تعاني منها البشرية اليوم أمام عجز النموذج الغربي المادي الاستهلاكي على حل مخلفاته الاجتماعية، إلا عن طريق تصديرها وتعميمها للأسف.
(*) جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال / المغرب.