ظهر في أوائل القرن العشرين مبدأ أساسي يقول إنه لا يوجد قياسات “لانهائية الدقة” أو “حتمية النتيجة”، بل على العكس، يجب أن تتضمن القياسات درجة من الارتياب (الشك) في القيم المتحصل عليها. وذلك لأن أي أداة قياس، لا يمكن أن تسجل نتائجها بدقة لانهائية، لأنها تتطلب قياسات وشروطًا ابتدائية لا نهائية. لكن باستخدام أداة قياس أكثر دقة، يمكن التقليل من معدل الارتياب في التنبؤات النهائية بمقدار غالبًا ما يكون صغيرًا إلى الحد الذي يُحتاج إليه لهدف معين. وبات هدف العلوم التجريبية، هو زيادة الدقة المطردة لأدوات القياس لتقترب من الدقة المطلقة، ولكن لن تصل إليها أبدًا.
بادر الفيزيائي والرياضي “هنري بوان كارييه” (1854-1912م) في هذ المجال، وذهب إلى أن “انفجار” الارتيابات الصغيرة في الشروط الابتدائية إلى ارتيابات ضخمة في التنبؤات النهائية، باقٍ حتى لو كانت الأولى قد انكمشت إلى أصغر حجم يمكن تصوره. وأصبحت “الحساسية للظروف الأولية” والموجودة رياضيًّا في الأنظمة المدروسة بواسطته، تعرف باسم “عدم الاستقرار الديناميكي” أو “الفوضى”. وباتت التنبؤات الرياضية بعيدة المدى “للأنظمة الفوضوية” لا تعدو أن تكون في دقتها فرصة عشوائية. مرت عقود حتى تم إدراك قيمة اكتشافاتها من قِبل المجتمع العلمي، وذلك لأن أكثر المجتمع الفيزيائي، كان مشغولاً باكتشافات جديدة في “ميكانيكا الكم” والامتداد الفيزيائي في عالم الذرة.
الـفوضى والبنى المنظَّمة
تبين أن الشروط الابتدائية والارتيابية في القياس، هي سبب حدوث “النظم الديناميكية غير الخطية”، أو “عدم الاستقرار الديناميكي”، أو “نظرية الـفوضى سابقًا”.فالاسم الأول (النظم الديناميكية غير الخطية)، يعتبره كثيرون اسمًا رسميًّا للعلم الجديد. ولإعطاء “جماهيرية”، اختير لفظ “كايوس” (Chaos)؛ أي “الفوضى”، وهذا العلم هو أحد أبناء الكمبيوتر. فمن خلال أحد علماء الطبيعة الجوية (إدوارد لورنتز) وكان صديقًا لـ”فون نيومان” الأب الروحي للكمبيوتر، تولد لديهما أمل أن يستخدم الكمبيوتر في التنبؤ بالطقس الجوي أسوة بتنبؤ الفلكيين بالظواهر الفلكية. وتم إجراء التجارب لتطبيق الفكرة، وإذا بظاهرة الفراشة تبدو صادمة؛ فكلما أجرى تجربة لنفس المعاملات، تكون النتائج مختلفة تمامًا، حتى شك في جهازه. إلا أنه اكتشف أن الخطأ في أي مُعامل مهما كان طفيفًا، لا يمكن للأجهزة أن تحس به، يتحول بعد فترة وجيزة ليسبب آثارًا خطيرة تجعل التنبؤ بالطقس مستحيلاً. وقضت ظاهرة الفراشة على أحلامهما في هذا المجال. ولكن تولد عن هذا الفشل، ظهور علم جديد.
هذا العلم -الذي وصفه البعض بالثورة الفيزيائية الثالثة بعد فيزياء نيوتن وأينشتاين- يصف ظواهر وبُنى منظَّمة واسعة النطاق. ويبدأ مما توقّف عنده العلم التقليدي. فمنذ شروع العلم في حل ألغاز الكون، عانى عجزًا بشأن فهم ظواهر الاضطراب، مثل تقلّبات المناخ، وحركة أمواج البحر، وتقلّبات الأنواع الحية وأعدادها، والتذبذب في عمل القلب والدماغ… فذلك الجانب من الطبيعة الذي يبدو غير منظّم أو غير منسجم أو غير متناسق أو مفاجئ أو انقلابي، أعجز العلم. لكن ذلك العجز تغيَّر تدريجيًّا منذ سبعينات القرن العشرين، عندما سعت كوكبة من العلماء بالاهتمام بأمر هذا “الاضطراب وفوضاه”، وحاولوا الإمساك بالخيوط الجامعة للظواهر التي تبدو غير منضبطة، وتتداخل وتتفاقم بين المجالات المختلفة ومنها:
• غالب ظواهر الطبيعة -إن لم تكن كلها- غير خطية العلاقات، ويترتب على ذلك الهيولية (استحالة التنبؤ) وهي أمر مختلف عن العشوائية، فلها هيكل منضبط يحكمها. والأنظمة البيولوجية محكومة أيضًا بآليات لا خطية، حيث يرى “روبرت ماي” أن كل نظام لا خطي بسيط، لا يتمتع بالضرورة بخصائص ديناميكية بسيطة.
• آمن بعض العلماء بأن وجود عدم الاستقرار الديناميكي في الفيزياء، يعطي الكون “سهم الزمن”؛ وهو التدفق غير العكسي من الماضي إلى المستقبل.
• نظرية “الهيولية” في علم الفلك مجال مزدهر، ويعتقد أن من نتاجها، الفراغات داخل حزام الكويكبات، ومدار قمر واحد على الأقل من أقمار كواكب المجموعة الشمسية، وكذلك مدارات بعض الكواكب ذاتها هيولية. وبإمكانها تفسير ما للشمس من أنشطة عنيفة غير متوقعة. بل إن أسطح كافة النجوم تبدو على هذه الشاكلة؛ فالنجوم النيترونية تقذف بين الحين والآخر برفقات عشوائية من أشعة إكس لا يعرف لها سبب. وأظهرت بعض النجوم المتغيرة سلوكًا هيوليًّا، أن بعض نجوم مجرتنا ومجرات أخرى، ذات مدارات هيولية، كما أن ثمة هيولية كامنة في النظريات النسبية العامة. ولعل من أهم النتائج تفسير البقعة الحمراء في المشتري، وهي منطقة من الاضطراب في جو الكوكب، حيرت العلماء منذ عصر “جاليليو” الذي كان أول من شاهدها.
• انعكاس محور المجال المغناطيسي للأرض على دورات مدتها من 100-150 ألف عام، وهذا التغير يبدو عشوائيًّا، ولذا فليس من المستبعد أن يكون هيوليًّا.
• قوانين الفيزياء الكوانتية هي قوانين الريبة بجوهرها، ومع ذلك، فقد بينت تجارب حديثة على الحاسوب لذرة هيدروجين متأينة إمكانية الرجوع إلى الحالة البدئية بالضبط، بينما لم يستطع الحاسوب تحقيق ذلك وفق الحسابات الكلاسيكية. وتطرح هذه التجارب جانبًا دقيقًا من مفهوم الفوضى على المستوى الكوانتي لا يزال العلماء في حيرة من تفسيره.
• من أهم نتائج دراسة إلكترونات المواد الصلبة هي أنه؛ كلما كانت الفوضى أكبر، كانت الخصائص الجهارية لمادة أقل تعلقًا بتفاصيل بنيتها المجهرية. ففي جسم بلوري لا تشوهات فيه، يكون الإلكترون الذي يتصف بكلية الحضور في وسط فوضوي، متوضعًا. عندما يدرس توزع كرات البليارد على الطاولة انطلاقًا من تشكيل ثابت، نصل إلى توزع فوضوي. فكل كرة على طاولة البليارد يمكن أن تعيد نظريًّا مسارها بشكل عكسي حتى النقطة البدائية.
• بحث التوقعات الفلكية طويلة الأجل، والتي كان مصيرها الفشل “المحتوم”؛ حيث لا نستطيع التنبؤ -رغم الحشد التقني- بما سيكون عليه الطقس إلا لفترة محدودة. فعملية التنبؤ بالظواهر الطبيعية ذات القوانين المعقدة والمتشابكة، تبدو مستحيلة. وبسبب “تأثير الفراشة” بات القبول بدقة التوقعات المناخية فقط في المدى القصير، لكن التوقعات بعيدة المدى -حتى لو استثمرت أكثر الطرق الكمبيوترية تطورًا- فلن تكون سوى تخمينات.
• ليس الطقس وحده الذي يستعصي على التنبؤ للمدى الطويل، لكن كل ظاهرة تتمثل في نموذج كرة، تتدحرج على مستوى خشن. إن معادلات نيوتن تمكّن من تقدير سرعة الجسم بعد فترة من حركته، وهو تحت تأثير الفرق بين قوة الدفع وقوة الاحتكاك السطحي. ولكن لو تصورنا أن السرعة تؤثر بدورها في قوة الاحتكاك -بحيث تزيد هذه القوة مع زيادة السرعة وتقل بانخفاضها- فإن الكرة حين تنزع لزيادة سرعتها، تزيد -تبعًا لذلك- قوة الاحتكاك، فتقل محصلة القوى وتأخذ الكرة في التباطؤ. فالتسارع يؤدي إلى التباطؤ، والعكس بالعكس، وما ذلك إلا لأن العامل المؤثر -وهو الاحتكاك- يتأثر بدوره بالعامل المتأثر (التغذية المرتدة). فإذا كانت درجة الارتباط بين المؤثر والمتأثر ضئيلة، فلن ينتاب النظام اضطراب، وتسير الكرة سيرًا حسنًا. ومع زيادة درجة الارتباط، تأخذ الظاهرة في الخروج عن حالتها الطبيعية، وبعد درجة أكبر من الارتباط، لن يجدي نفعًا تطبيقُ معادلات الحركة لـ”نيوتن” لتقدير سرعة الكرة بعد حين من الزمن مهما كانت ضآلته، ذلك رغم استمرار هيمنة تلك المعادلات على الظاهرة. فالمعاملات المؤثرة في الطقس متعددة، كالضغط الجوي والحرارة والرطوبة، إلا أن هذه المعاملات مترابطة بعضها ببعض برباط التغذية المرتدة، لتجعل من المستحيل التنبؤ بما سيكون عليه الحال لطقس معين في مكان معين، بعد فترة تزيد على عدة أيام، أي قبل أن تدخل ظاهرة الفراشة في سيناريو الأحداث بصورة جدية.
• نفس الشيء ينطبق على تصاعد الدخان من فنجان قهوتك وتكون سحابة في السماء، وتطاير ورقة شجر أثناء عاصفة، وحالات عدم استقرار الشبكات الكهربائية، وتشوش قنوات الاتصال… باختصار، كل ظاهرة نظنها “عشوائية” تستعصي على التحليل العلمي.
• هذا العلم أزال الحواجز بين التخصصات المختلفة، فعني بالتحولات في الأنواع الحية وأعدادها. فتنمو النباتات وتولد الحيوانات، مُشكلة أنظمة مفتوحة تتبادل المادة والطاقة مع محيطها وهي بعيدة عن الاستقرار؛ ومساقط المياه، وتَشكُّل الغيوم وحركاتها، وتبخر المحيطات، وحركة أمواج البحر، وانفجار البراكين، وتشكل السواحل والجبال، ونمو الأشجار، وغير ذلك من ظواهر. فحالة الهيولية، تترجم رياضيًّا على صورة مجموعة من المعاملات الرياضية قليلة العدد، ومن ثم توضع الحاسوب، فيمكن تمثيل الظاهرة كما تشاء، وما نراه حاليًّا في السينما، من مناظر للأعاصير المدمرة.
• أمكن تفسير موجات الانقراض أو التزايد في أجناس الحيوانات؛ فبيئة تحتوي على أُسود وغزلان لا غير. في حالة معينة، نتصور أن الأسود أقوى بدنيًّا من الغزلان، بحيث تلحق بها خلال عمليات القنص فتقضي عليها بعد حين. لكن الغزلان هي الأسرع فلا تلحقها الأسود، فيكون مصير الأسود هو الانقراض بعد حين. هذان المصيران يمثلان حالتي استقرار للبيئة، ولكن لما تدخل ظاهرة التغذية المرتدة، نأخذ في الاعتبار أن الأسود تفترس الغزلان الضعيفة ولا تلحق الضرر بالغزلان القوية. في البداية يبدأ مجتمع الغزلان في التناقص نتيجة التهام الغزلان الضعيفة فيه، بينما يبدأ مجتمع الأسود في التزايد نتيجة وفرة الغذاء، وجيلاً بعد جيل، تزداد نسبة الغزلان القوية في مجتمعها، بينما تزداد نسبة الأسود الضعيفة في مجتمعها. وبعد حين نجد أن الوضع قد تبدل، إذ يميل مجتمع الغزلان للتزايد، بينما يميل مجتمع الأسود للتناقص بسبب فناء الأفراد العاجزة عن اللحاق بالغزلان. وبعد عدة أجيال أخرى ينقلب الوضع، وهكذا دواليك. وبالطريقة نفسها أمكن في مجال الطب تفسير حالات من انتشار الأوبئة لم تكن قابلة للتفسير من قبل.
• في تجربة أجريت على حركة التدوّم، دُرست دوّامة مبسطة إلى أقصى حد ممكن، وتبين أن المظهر الخارجي الفوضوي لها، ينجم عن تشكيلات متتالية فائقة التعقيد يتناوب فيها النظام والفوضى والتدوّم. ومن جهة أخرى، سمحت طريقة التصفية -وهي نظرية تدرس انتشار وباء أو حريق أو مرض أو غاز- بإيجاد قوانين عالمية تحكم ظاهرات مختلفة، وقد دعيت بقوانين “وباء الفوضى”. وتبين من خلالها أن اتصال مجموعتين عبر حدين، كمنطقتي انتشار وباء أو حريق، لا يمكن أن يتم إلا إذا تجاوز نسبة 60% في كل منهما تقريبًا. وبالمقابل، فإن التشكل العشوائي لحالات الاتصال بين الخلايا الشعرية الرئوية، يخلق مجموعة من الممرات ذات الحجوم غير المتجانسة، إنما التي تبين تطابقها القصيمي -أي أن كل جزء صغير منها- كان صورة مطابقة للجزء الكبير. ويسمح هذا النموذج الهندسي “الفوضوي” للعلماء، بوصف دقيق لضبط تبادلات الجزيئات الكبيرة بين الدم والأنسجة.
• يمكن تطبيق هذا العلم على الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، وعلى العلاقات البشرية الطبيعية. فالإنسان يتعرض لعوامل مادية وبيولوجية ونفسية، وكل نوع يؤثر في الأنواع الأخرى. فيمكن تناول هذه العوامل المؤثرة، ومدى تداخلها مع بعضها، لتحدث تحولاً من حالة الاستقرار إلى حالة اللانظام. فالأزمة النفسية قد تحدث عوارض مرضية والعكس، وحينما يصل التداخل إلى درجة معينة، تصل المنظومة الإنسانية إلى استقرار أفضل. لذا، فعلم النفس سيثري ثراء شديدًا باستثماره مبادئ هذا العلم.
• يصعب تطبيق التنبؤ بالحوادث التاريخية، لأن الباحث التاريخي مهما قويت أدواته، لا يمكن أن يحيط بكافة العوامل مهما كانت متواضعة. فعلى سبيل المثال؛ لم يكن “مالتوس” في رؤيته “لندرة الموارد” ونظرته التشاؤمية بشأن الزيادات السكانية، يدري أن هناك أبحاثًا في الأفق حول طاقة مهولة ستكتشف هي الطاقة الذرية.
هذا وقد ظن الماديون والملحدون الذين يؤمنون بالحتمية والميكانيكية الصارمة في الكون، أن الكون ومن ثم الإنسان، يقوم -آليًّا- وحده، ولا حاجة -في زعمهم- لتعليمات إلهٍ، وتكليفاته، وثوابه أو عقابه. فخابوا وخسروا؛ لأن الله سبحانه وتعالى بقيوميته يفعل ما يشاء، ووقت ما شاء، وأينما يشاء، وكيفما يشاء، وهو القائل: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)(الحجر:21-24).
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.