يُعد الماء أصل كل شيء ومفتاح الوجود الذي انطلق منه الكون وتفرّعت منه الحياة. فقد جاء في تفسير ابن كثير لقول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)(هود:7)، أن محمدًا بن إسحاق قال في تفسير هذه الآية: “فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والإكرام”. وهذا المنطلق يجب أن يعتبر قاعدة الأساس في كل بحث، كما يتجلى ذلك من خلال حقائق العلم الحديث، التي أظهرت أثر الماء عند كل مرحلة من مراحل التكوين، منذ بدء الكون إلى خلق الإنسان فما بعد.
فإذا تطرقنا إلى الأطوار الجنينية المتعلقة بخلق الكون، فإنه يظهر في تقدير علماء الفضاء، أن دور الماء كان بارزًا في إصدار الطاقة التي كانت وراء ميلاد الكون، وذلك نتيجة انتقال الماء من حال حبّات متجمدة دون شكل، إلى حبّات متجمدة ذات شكل بلوري تحت تأثير ارتفاع طارئ للحرارة.
كما أننا نجد أن الغلاف الجوي الذي نتج عن تبخر ماء جوف الأرض، سيشكل فيما بعدُ الغطاء الذي فيه ستحفظ الحياة، وبه ستحكم الحواجز بين السماء والأرض، يقول عز وجل: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)(الأنبياء:32). فالغلاف الجوي يبلغ سمكه 500 كلم، وهو يحمي الأرض من خطر الإشعاعات المضرة بالحياة، وينقل ثم يوزع الطاقة الشمسية التي تحولها الأرض إلى طاقة حرارية وكيماوية، كما يضمن لها توازنها البيئي فيحفظ محتويات الأرض من مياه وغازات ومواد متبخرة وطاقات، حيث كلما صعدت إلى الأجواء العليا إلا واصطدمت بالجدار الجوي ورجعت إلى مستودعها في الأرض. فيكون الغلاف الجوي بمثابة الوقاء الذي يحفظ محتويات الأرض، ويَحول دون نفوذها إلى الفضاء الخارجي، يقول عز وجل: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ)(الطارق:11)، ويقول جل علاه: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)(ق:6). وبذلك شاءت قدرة الله سبحانه، أن تدور مكونات الماء في حلقة الحياة بين سطح الأرض وغلاف جوها، وانحصرت الحياة في هذا النطاق. فما صعد أحد في الجو إلا وأحس بضيق واختناق، حتى إذا تجاوز مستوى الغلاف، انعدم الأوكسجين واستحالت الحياة، يقول عز وجل: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)(الأنعام:125).
واستقر الماء في الأرض بعدما نزل من السماء، كما رأينا ذلك في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ)(المؤمنون:18). فشاء التدبير الإلهي، أن تفرز تشققات قعرِ المحيطات أملاحًا معدنية أعطت ملوحة ماء البحر، ثم بعد ذلك ظهرت أولى الكائنات وحيدة الخلية في مياه البحر، وبنشوئها ظهرت الحياة في الماء، ثم تسلسلت في إيقاع بديع عبر مئات الملايين من السنين، بدءًا بكائنات بدائية بسيطة، وانتهاء بمخلوقات متطورة غاية في التعقيد والتي يعتبر الإنسان منتهى كمالها، يقول عز وجل: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)(السجدة:6). وفي هذا التدرج التسلسلي لأصناف الكائنات، يقول ابن خلدون: “ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ بالمعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج.. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات، أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية”.
ولقد خص الله تعالى ماء البحر بسر عجيب في نشوء واستمرارية الحياة، وذلك ما أكدته الأبحاث الجيولوجية لبقايا أصناف الكائنات الحية الباكرة، حيث أظهرت أن أول أشكال الحياة التي ظهرت على سطح الأرض والمرسخة آثارها في صخور القشرة الأرضية، تشير إلى أن الحياة نشأت في ماء البحر وظلت مقصورة عليه آلاف الملايين من السنين، قبل أن تنتقل إلى اليابسة في شكل نباتات برية في عصر الديفونيان (أي قبل 400 مليون سنة من زماننا)، ثم في شكل حيوانات بدائية في نهاية ذلك العصر (أي قبل حوالي 350 مليون سنة من زماننا).
وهذه الميزة التي خص الله تعالى بها ماء البحر في نشوء الحياة، تعود -كما يظهر من مواصفات البحر- إلى انفراده بإنتاج عنصر الفوسفور الأساسي في تكوين الحامض الأميني الذي جعله الله تعالى مفتاحًا للحياة. وهذا السر راجع إلى كون نواة الخلية التي هي محور حياتها والتي تحمل ميكانيزمات الوراثة واستمرارية النوع، تتكوّن أساسًا من الحامض الأميني (DNA) الذي جعله الله تعالى نشئًا فريدًا ومفتاحًا وحيدًا للحياة، فحباه الخالق جل جلاله بخاصية الاستنساخ (Duplication) وهي ميزة لا توجد في أي جزيء آخر. وعليه، وبما أن العلماء لاحظوا أن الفوسفور يعتبر العنصر الأساس في تنظيم عملية تسوية الأوكسجين بين البحار والأجواء القارية عبر البناء الضوئي الذي تنفرد به النباتات الخضراء، وكون أن مصدر الفوسفور الأصلي يعود كله إلى أعماق البحر، فهذا يعني أن الفوسفور يشكل معدن الحياة والماء الذي يحمله، هو نبعها والبحر مهد نشوئها.وهذا مشهد آخر من منظومة أصل الحياة، ينضاف إلى إدراكنا من خلال تجليات أثر الماء الذي جعله الله تعالى مصدر خلق كل ما يدبّ على الأرض، فقال وهو أصدق القائلين: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)(النور:45).
ومن أهم تجليات أثر الماء على إحياء الأرض، ما يُستشف من عمل المياه في ميادين تعرية وتحليل ونقل الرواسب وموادها الأساسية في تخصيب التربة لنمو النبات. فمن جملة التطورات التي شهدها سطح الأرض، التواء القشرة الأرضية وبروز المرتفعات بما تتحمله من مواد معدنية في طياتها إلى السطح، حتى إذا أتت عليها عوامل التعرية تفتتت أجزاؤها وتحللت مركباتها، ثم نُقلت بواسطة المياه إلى المنخفضات لتخصيبها، فيكثر فيها النبات ويزدهر الكلأ؛ فتكون الجبال مصدر الخير، والمنخفضات محطات لاستقطاب هذه الخيرات، والماء أداة التعرية والنقل والتوزيع، وصدق الله حيث قال: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ)
(النازعات:32-33). فإذا سأل السائل عن هذا المتاع الذي أودعه الله تعالى في الجبال، قلنا له اهبط إلى منخفضات الأرض فستجدها قد ركّزت ما جرفته الأنهار إليها منه.
وهكذا جعل الخالق سبحانه الماء العنصر الأساس في تمهيد التربة لنمو النبات الذي هو مصدر الغذاء ومصدر الطاقة، فخص سبحانه النبات بعملية البناء الضوئي (Photosynthèse) التي هي صلة الوصل بين العالم العضوي والعالم غير العضوي، ليكون مصدرًا لأوكسجين الحياة انطلاقًا من الماء كما تبين المعادلة التالية:
الطاقة الضوئية
6CO2 + 12H2O + C6H12O6 + 6O2 + 6H2O
وهذا يستدعي الوقوف والتفكر في آيات الله، لما يظهره الماء من أسرار عجيبة في حلقة الحياة المغلقة بين بدء الخلق ونهايته. فالماء كان الأصل في شق الأرض الهامدة، وإيجاد التربة التي أنبتت الزرع عبر تسرب الماء إلى الحبة التي انفلقت وأنبتت خضرًا كما نص كتاب الله على ذلك في قوله تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا)(عبس:25-27). ثم في مرحلة أخرى، كان الماء هو المولّد الأساسي لأوكسجين الحياة بفعل البناء الضوئي القائم على استعمال الطاقة الضوئية. وذلك ما تؤكده المعادلة التي وضعناها، حيث قام باحثون في علم الكيمياء بتعليم ذرات الأوكسجين في جزيئات الماء وغاز الكربون، فتبين لهم عبر تتبع مراحل التفاعلات الكيميائية في عملية البناء الضوئي، أن الأوكسجين الذي تفرزه المعادلة الكيميائية، هو آت من انشطار جزيئات الماء وليس من غاز الكربون. فسبحان من جعل أوكسجين الحياة يأتي في جزء كبير منه من انشطار الماء، وقرر ذلك في كتابه الكريم بقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(الأنبياء:30).
أما الأوكسجين الآتي من انشطار جزيئات غاز الكربون، فهو يذهب لإنتاج الهيدروكربونات التي هي سكريات النبات، فيدّخر منها النبات ما يمكّنه من تحصيل الطاقة الضرورية للحياة، حتى إذا صار مصدرًا لغذاء حيوان أو إنسان، انتقلت هذه الطاقة إلى المستهلك، فإذا توقفت حياته تحررت الطاقة المخزنة مع غاز الكربون عند تلاشي وتأكسد بقاياه.
(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.