من أجل المحافظة وتفعيل اخضرار الأرض وجّه سبحانه وتعالى -فطريًّا- مخلوقاته الصغيرة وفي مقدمتها النحل، لتسكن الأشجار والبساتين، وألزمها سبحانه وتعالى أن تتنقل بين جميع النباتات، متخذة من ثمراتها منهل إطعامها. والعلم الحديث يكشف لنا عن إعجاز علمي في تعليل خطاب الرحمن الموجَّه خصيصًا إلى النحل، أن يرتاد عالم النبات سكنًا وطعامًا. فمن حقائق العلم المعاصر، ما تلعبه هذه الدابة الطائرة الصغيرة من دور رئيس كوسيط في نقل حبوب اللقاح بين النبات في البراري والزراعات. من الحقائق العلمية أنه بتوقف تلقيح النباتات، يتوقف بالمقابل تكاثرها. وتمثل الزهرة العضو المسؤول عن عملية التكاثر في النباتات، فهي تعمل على دمج حبوب اللقاح المذكرة مع البويضة المؤنثة من أجل إنتاج البذور. وحبوب اللقاح تأخذ شكل بذرة داخل الزهرة، وعادة تتجمع داخل جيب يسميه العلماء “سلة اللقاح”. محتويات هذه السلة هي أساس تكاثر النبات، ذلك أن اللقاح بمثابة السائل المنوي لدى النباتات لنشر جيناتها.
وتتكون حبوب اللقاح من الماء، السكريات، الدهون، البروتينات -وبها نسبة كبيرة من الأحماض الأمينية- الفيتامينات، والمعادن، مثل الكالسيوم، والكلور، والمغنزيوم. تحتوي حبوب اللقاح على عدد كبير من الأنزيمات والخمائر، وأيضًا على بعض العناصر الأخرى، مثل مادة الروبين التي تدخل في تركيب الشعيرات الدموية وتزيد من قوة التصاق خلاياها بعضها ببعض. والتلقيح في النبات هو انتقال حب الطلع (Pollen) من السداة (Etamine) إلى المدقة (Pistil)، أو من المآبر الذكرية (Antheres) إلى المياسم الأنثوية (İgmates) بطرق تختلف باختلاف الأنواع النباتية.
إستراتيجيات التلقيح
والتلقيح قد يكون ذاتيًّا بانتقال حبوب اللقاح من متوك زهرة إلى مياسم نفس الزهرة، أو إلى ميسم زهرة أخرى ضمن النبات نفسه. ويتم ذلك بانطباق السداة المتفتحة مباشرة على الميسم، أو بواسطة الريح فيما يسمى بـ”التلقيح الهوائي”، ويجري هذا التلقيح غالبًا في النباتات التي تنتج كميات كبيرة من حب الطلع الخفيف الوزن، الأملس، والمزود بأكياس هوائية تضمن حملة بالهواء مسافات بعيدة. والماء يعد وسيطًا في نقل حبوب الأزهار أليفة الماء (Hydrophiles)، حيث تتحرك الحبوب مع التيارات المائية لتصل إلى مياسم الأزهار.
وهناك طريقة أخرى للتلقيح من خلال وسيط يتمثل في حشرات وحيوانات، فهي آليات طبيعية تؤدي دورها الحيوي في نقل حبوب اللقاح. وقد ألهم أولئك الوسطاء الخبراء لابتداع وتطوير أساليب متقدمة للتلقيح بالحشرات. وقد أظهر تقرير حديث مساهمة الملقحات -خصوصًا النحل- في نمو نباتات العالم، حيث بلغت قيمة التلقيح بالحشرات في العام 2014م أكثر من 200 مليار دولار أمريكي في كافة أنحاء العالم.
أشهر وسطاء التلقيح
من أجل التكاثر، تعتمد معظم النباتات المزهرة على طرف ثالث لنقل حبوب اللقاح بين جُزءَيْها الذكري والأنثوي. وبعضها يتطلب تحفيزًا إضافيًّا للإسراع بهذه العملية. وعلى سبيل المثال، تحتاج زهرة الطماطم إلى رجّة عنيفة يعادل اهتزازها تقريبًا 30 مرة قوة الجذب لدى جاذبية الأرض. وقد جرّب المزارعون العديد من الطرق من أجل رجّ حبوب اللقاح من أزهار الطماطم، وذلك باستخدام الطاولات المهتزة، ونافخات الهواء، والمفجرات الصوتية، والهزازات التي تتطلب جهدًا كبيرًا من أجل وضعها باليد على كل مجموعة من الأزهار، لكن الأداة المفضلة في البيوت الزجاجية حاليًّا -كما دلت التجربة- هي النحلة الطنانة؛ فهي تنقضّ على زهرة الطماطم وتبدأ بهَزِّها بشراسة وهي تتغذى، لتطلق سحابة فاترة من حبوب اللقاح تلامس ميسم النبتة (الطرف السائب من الجزء الأنثوي الذي تلتصق به حبوب اللقاح)، وتلتصق أيضًا بجسم النحلة الأزغب، ثم تنقل النحلة ذلك الهباء إلى الزهرة التالية فيما يسمى بـ”التلقيح الطنان” الذي يعتبر مفعوله كالسحر.
هناك أكثر من 200 ألف نوع من مملكة الحيوان يقوم بدور الوسيط في نقل حبوب اللقاح في عالم النبات باستخدام إستراتيجيات مختلفة من أجل مساعدة الزهور في إنتاج المزيد من الزهور؛ ويعتبر الذباب والخنافس ملقحات أصلية، حيث يعود تاريخها إلى فجر ظهور النباتات منذ ملايين السنين.
أما بالنسبة للنحل، فقد قام العلماء بتحديد ما يقرب 20 ألف جنس مختلف منه حتى الآن، يعمل نحو خمسة على تلقيح الزهور في الولايات المتحدة. وإلى جوار النحل يباشر أعمال الوساطة في التلقيح الطيور الطنانة، والفراشات، والعثات، والدبابير، والنمل.. فجميعها لديها الكفاءة في إنجاز المهام. وينضم إلى قافلة تلك الوسطاء، الحلزونات، والرخويات، حيث تخلف وراءها حبوب اللقاح وهي تزحف على مجموعات الزهور. ويحمل البعوض حبوب اللقاح لبقاع من البساتين، كما تقوم الخنافس من خلال خطوم وألسنة متنوعة تم تكييفها لتلقيح أزهار ذات أشكال مختلفة، بنقل حبوب اللقاح إلى 360 نوعًا من النباتات الأمريكية وحدها.
التلقيح في البرية
وللثدييات -رغم عدم قدرتها على الطيران- دورها في عملية التلقيح.. فالأبوسوم، المحب للسكر، حيوان من الثدييات ذات الفراء يعيش في نصف الكرة الغربي، وبعض قردة الغابات المطيرة، وحيوان الليمور في جزيرة مدغشقر، كلها تتوفر على أياد رشيقة تستخدمها في تمزيق سيقان أزهار النباتات وفتح أغشية الفرو التي تلتصق بها حبوب اللقاح. وقد لوحظ أن السحالي -مثل الوزع والسقنقور- تلعق الرحيق وحبوب اللقاح، ومن ثم تنقل اللقاح الذي يبقى ملتصقًا بوجهها أثناء رحلتها في الرعي بحثًا عن الغذاء.
في جزيرة بارو كلورادو البنمية، ينهض فريق من الملقحين بمهامه في تلقيح الأشجار هناك، ولعل أبرزها شجرة أكروما الهرمية (Ochroma Pyramidate) وتسمى أيضًا “البلزا” والتي تعرف بفائدتها كمصدر عالمي رئيس للخشب خفيف الوزن، ومن خصائصها أنها تعيش ما بين 30 و40 سنة. في عالم النبات مثل شجرة البلزا، تتفتح أزهارها في الليل فقط، ومن هنا يختلف ضيوفها عن ضيوف النبات المزهر نهارًا، وزواره من الطيور والنحل والفراشات والخنافس، فيما تستضيف النباتات المزهرة ليلاً العثث والصراصير والجنادب، إضافة إلى الثدييات الصغيرة.
فبحسب النتائج التي توصل إليها الباحثون بمعهد سيمثسونيان للأبحاث الاستوائية، أن قردة الكباشين (Capuchins)، والقردة المقلنسة -وهي من النوع الشهير بالدهاء وسعة الحيلة مثل الشامبانزي الإفريقي- تؤدي دور وسيط التلقيح لأزهار أعالي هذه الشجرة التي يبلغ ارتفاعها 30 مترًَا، والشجرة تحمل بمئات الأزهار من مراحل ينعان مختلفة. فهناك براعم بنية اللون تبدو مثل عيدان عملاقة لتنظيف الأذن، وأزهار حلزونية الشكل غير متفتحة لها رؤوس قشدية كمخروط مثلجات الفانيلا، ثم الأزهار الناضجة التي تتفتح ليلاً، وذلك ببسط بتلاتها الخمس اللحيمة لتكشف عن سداة (العضو الذكري في الزهرة) مغطاة بحبوب لقاح يحفها حوض بعمق سنتيمتر يحوي رحيقًا مغذيًا ذات حلاوة شديدة. كل هذه الأزهار والبتلات تتفتح ليلاً، ويزداد تفتحها مع مرور وقت الليل أوسع فأوسع كلما خيمت الظلمة على الأجواء.
عُرف عن القردة أنها تصعد إلى شجرة البلزا مع الغروب وذلك في جماعات، حيث تقوم القرود بغرز رؤوسها داخل الأزهار اليافعة والتهام رحيقها، وعندما تُخرج وجوهَها من الأزهار تكون خطومها ملطخة بحبوب اللقاح، هذه الخطوم هي الوسيط الناقل للقاح إلى الأجزاء الأنثوية في أزهار شجرة بلزا أخرى.
وشجرة البلزا، عُرف عنها سخاؤها؛ فهي تنتج في الليلة الواحدة حوالي لتر واحد -أو أكثر- من رحيقها المميز وهو مزيج من السكريات والمركبات العطرية، فما أن ينضب رحيق إلا وتسارع بإفراز غيره، وكأنها على علم بقدوم مخلوقات أخرى تالية للقردة، فالشجرة تعيد على الفور ملء الأزهار الجافة برحيق طازج، وتدفع أخرى جديدة لتتفتح.. إنها مهمة تحرص عليها الشجرة من الغسق إلى بزوغ الفجر؛ ذلك أن زائريها غير متوقفين ليلاً من مختلف الأنواع والأجناس الثدييات، الطيور، البرمائيات، والحشرات.
رصد العلماء حيوانات شتى تزور الشجرة، منها ما يشبه الأبوسوم الأمريكي، وهو حيوان من ذوات الجراب والكنكاج، وحيوان الأولينغو الشبيه بالراكون ملك الانزلاق عبر الأغصان وهو من ذوات الأرجل الأربعة. وأولئك الملقحون يمتلكون فروًا عسليًّا لامعًا ينسجم ولحاء الأشجار، وذيلاً طويلاً، وعينين كبيرتين أماميتين للتحدي البصري الذي يشكله الإبحار عبر الأشجار في ظلمة الليل.
تربية الملقحات
نعلم أن نحل العسل الأوروبي قد تم جلبه إلى الولايات المتحدة منذ أربعة قرون، ومنذ خمسينيات القرن العشرين والمناحل تنتشر على طول البلاد، حيث يقوم مربّو النحل بتأجيره إلى المزارع الكبيرة ليلقح محاصيلها. هذا وتضم مستعمرة النحل أفرادًا تبلغ قرابة الثلاثين ألف نحلة أو أكثر في الخلية الواحدة، حيث يرعى القطيع على امتداد مسافات طويلة. وقد تعلّم المزارعون أن هذا النحل يسهل تحريكه وتوجيهه على نحو أفضل من معظم الحشرات، وهو نحل لا يلسع ويصلح لتلقيح أي محصول تقريبًا.
ومما يثير القلق، معاناة النحل من الأمراض، وأخطرها ما سجل في الأعوام ما بين 2006-2010 من انتشار مرض انهيار خلية النحل المعروف بـ”اضطراب انهيار المستعمرة”. وقد توصل الباحثون إلى أن التغذية غير الكافية وتعرّض النحل للكيميائيات، يمكن أن يؤديا إلى أضعاف المناعة لدى النحلة قبل أن تنقضّ الفيروسات للفتك بها. كما يمكن لمبيدات الفطريات أن تكون مصدرًا للتسمم، إذ يمكن أن تتداخل مع الجراثيم التي تعمل على تفتيت حبوب اللقاح في أحشاء الحشرات، ما يؤثر على امتصاص العناصر الغذائية وبالتالي صحة النحلة في المدى البعيد وأمد حياتها.
وكما يتعرض النحل المربي إلى الإصابة بهذه الآفة فكذلك الملقحات البرية، مما دعا العلماء إلى البحث عن حلول مثل الحد من الاعتماد على المواد الكيميائية في الزراعة، والتشجيع على زراعة النباتات في المناطق المجاورة للأراضي الزراعية، فتوفير ملاذات للأزهار البرية الخالية من المبيدات الحشرية من شأنها دعم جماعات من الحشرات النافعة مثل نحل البساتين الأزرق، وهو ملقح فعال للغاية لبعض المحاصيل مثل محاصيل اللوز. وأيضًا النحل شديد الطنين المقاوم للطقس البارد والرطب.
(*) أكاديمي وباحث مصري.