إن المحشر هو المكان الذي يبعث فيه الناس جميعًا روحًا وجسدًا، والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة وهو يتحدث عن البعث في سياقات مختلفة وفي مشاهد عديدة، وبالتالي يؤكد على الروح في السياقات التي تكون فيها الروح هي الأهم، بينما يركز على الجسد في السياقات التي يكون فيها الجسد هو الأهم:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (سُورَةُ الفَجْرِ: 89/27-30).
فهذه الآيات تسلط الضوء على عودة الروح إلى الله تعالى بالأخص، ولكن في معرض الحديث عن البعث العام يتم الحديث عن الكائنات ذات الكثافة المادية مثل الأشجار ومظاهر الربيع، ويتم التنبيه إلى بعث الأجساد والأرواح معًا.
نقاشات كلامية
هنا لن ندخل في نقاشات كلامية، ولن نسرد أدلة مجموعتين اختلفتا في تأويل الموضوع فذهبتا في اتجاهين مختلفين، ولكن نقول باختصار شديد:
إن الجنة والنار نتيجتان مهمتان، وإن أسماء الله وصفاته يقتضيان وجودهما بالضرورة، والجنة رحمة في نظر المؤمن كما أن النار رحمة.
إن جمهور علماء المسلمين ذهبوا إلى أن البعث هو بعث الروح والجسد معًا، بينما ذهب قلةٌ إلى القول بأن البعث هو بعث للروح فقط، ولن ندخل هنا في تفاصيل ما إذا كان البعث هو بعث ذرات الجسد برمتها، أم بعث الذرات الأصلية التي تشكل جوهر الإنسان، فقد ذهب في تأويل ذلك كل من الإمام الغزالي والإمام فخر الدين الرازي مذاهب شتى، أما نحن فإننا نؤمن بحقيقة البعث والنشور كما جاء ذكرها في كتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونُحيل ما لا يدخل في إطار استيعابنا إلى علم العليم الخبير.
ثمرتان ضروريتان
إن الجنة والنار نتيجتان مهمتان، وإن أسماء الله وصفاته يقتضيان وجودهما بالضرورة، والجنة رحمة في نظر المؤمن كما أن النار رحمة، ويؤكد هذا المعنى ما جاء في سورة الرحمن حيث يقول تعالى:
﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (سُورَةُ الرَّحْمَنِ: 55/35-36)، أي يرسل عليكما نيران مرعبة يستحيل عليكم تقدير هولها، فالقرآن الكريم بعد التحذير من تلك النيران المروعة، يخاطب الإنس والجن بعبارة ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، فأي نعمة تلك التي قُصدت هنا؟
أجل، إذا كانت جهنم بهولها ذاك، تثير الخوف في قلب الإنسان، فتحركه لكي ينظم حياته وفق مرضاة الله تعالى، فإنها نعمة له حقًّا.
الجنة محفِّز لأهل الهمّة من النفوس الطيّبة لتنطلق نحو القمم، وكذا النار ضابط حيوي للنفوس الخام التي لم تبلغ مستوى النضج بعد.
إن الجنة محفِّزٌ مهمٌّ لِأَهْلِ الهمّةِ من النفوسِ الطيّبة المرهَفة لكي تنطَلِقَ نحو القمم العالية، وكذلك النار ضابط حيوي ومنظم أساس للنفوس الخام التي لم تبلغ مستوى النضج بعد، حيث تبعث الخوف في قلوبهم فتؤدي بهم إلى أن يراقبوا أنفسهم ويحاسبوها ويقيموها على الصراط السوي.
أجل، إن مَثل جهنم كمثل نار أوقدت في طريق محفوف بالمخاطر، وإنها تجنّب الإنسان من أن يسلك ذلك الطريق، أما الجنة فمثلها كمثل مائدة شهية أقيمت على طريق مستقيم، فتأتي الجنة تدعو الإنسان لكي يسلك ذلك الطريق، وهكذا نرى أن جهنم نعمة، والجنة نعمة لأولي الألباب الذين يبتغون حسن العاقبة ويخشون سوء العذاب.
روح وجسد
إن القرآن المجيد قد بيّن حقيقة الجنة والنار في أكثر من مائة وعشر آيات، إنْ بالتفصيل أو بالإجمال، وفي هذا البيان الذي يصور فيه مشاهد النار والجنة، يؤكد على معية الروح والجسد أثناء البعث بعد الموت، فمن دخل الجنة فإن البشاشة تعلو وجهه، وذلك في إشارة إلى سكينة الروح واطمئنان النفس، كما أنه يلقى ما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة حاضرًا، وترافقه زوجته وترفرف الحور العين من حوله، وهذه بطبيعة الحال نِعَمٌ متّصلة بجسد الإنسان.
قد أوضح القرآن المجيد حقيقة الجنة والنار في أكثر من مائة وعشر آيات، وأكد على معية الروح والجسد أثناء البعث بعد الموت.
وفي المقابل فإن مشاعر الندم التي يحس بها أهل النار، وآلامَ الحسرة التي تدمي ضمائرهم، هي كلُّها روحية لا شك في ذلك؛ ولكن دخولهم النار وتبديل جلودهم المحترقة بجلود غيرها، وشهود أعضائهم على أفعالهم السيئة.. هذه كلها ألوان من العذاب الجسدي.
ولقد أردنا من خلال تطرقنا إلى الجنة والنار في هذا المبحث التنبيه إلى معية الروح والجسد في البعث بعد الموت، وذلك ما أكدته الآيات القرآنية في أماكن شتى؛ وإلا فإن الموضوع واسع طويل يحتاج إلى بحث معمَّقٍ مستقلّ.
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص: ١٠٥-١٠٧.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.