لا ريب أن الكتاب الذي وضعه تشارلز داوتي Charles Doughty، أحد رواد قافلة المداد الغربية، عن رحلته في شبه الجزيرة العربية يُعدّ سفرًا ضخمًا وفريدًا من نوعه، إذ قضى سنتين (1876-1877) متجولا في صحرائها، بين مدائن صالح وتيماء والعلا، وجبل شمر وبريدة ،وعنيزة وخيبر والطائف إلى أن وصل أخيرًا إلى جدة ومنها إلى الهند، ثم عكف بعدها على إعداد الكتاب الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1888، وقام المركز القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بنشر ترجمة له أعدها صبري محمد حسن، وراجعها وقدمها الدكتور جمال زكريا قاسم، بعنوان: ترحال في صحراء الجزيرة العربية، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005)، وما سجله داوتي بكل المقاييس أفضل وأشمل دراسة عن كل ما يتعلق بحياة البدو ومعيشتهم، التي تميزت بالقسوة والقحط لقلة مواردهم، وتحدث باستفاضة عن مضارب البدو وخيامهم وطرقهم في استخراج المياه من الآبار، والمهن التي يمارسونها. وكيف نظر إلى المسلمين وهم يقاسون الصيام في طبيعة الحياة القاسية من حرارة الطقس نهارًا، وبرودته ليلا، وقلة المياه، وجدب المعيشة، وهي أمور يتحملها البدو بصبر وأناة.
يؤكد داوتي على تمسك المرأة البدوية بالصوم، بالرغم من مقاساتها أشد الآلام في ذلك الصيام، فهي تكابد وتثابر على مشقة شهر رمضان في تلك الأجواء شديدة الحرارة نهارًا شديدة الرطوبة ليلًا من أجل المحافظة على صيام شهر رمضان.
يلاحظ تشارلز داوتي استعداد بدو الجزيرة العربية لشهر رمضان مُبكرًا، وذلك بتهيئة نفوسهم روحيًا، فيقول: “كان رمضان، شهر الصوم، على وشك الدخول، وهذا الشهر يشغل أرواح المسلمين، بما في ذلك الأعراب الذين يعيشون في البادية، ويُضفي على تلك الأرواح المزيد من الورع والتدين، هؤلاء البدو يُحاكون ما يحدث في الحضر، ذلك الذي شاهدوه في المدينة المنورة، وهم يخرجون من بيوتهم في مواقيت الصلاة، ويقفون على شكل صفوف، ويستمعون إلى الإمام، ويحنون جباههم الخالية ثم يسجدون، حيث المسلمون جميعًا يتساوون في الدين والعبادة”(ص 317).
يُفاجأ هلال شهر رمضان مرافقي داوتي من البدو، إذ يُشاهدون الهلال في اليوم الثالث من الشهر، وهنا يثور الجدل، و”راح الناس يتساءلون فيما بينهم حول إذا ما كانوا قد جرحوا صيامهم في ذلك اليوم، الذي حدده بعض شيوخ هؤلاء البدو على أنه اليوم الأول من شهر الصوم، ولكن محسن المتحرر، قال إنه لا ذنب على من أكل إلى أن يرى الهلال الجديد، وغالبًا ما تكون تلك الرؤية في مساء اليوم الثالث من الشهر، وبعدها يصوم الناس الشهر اعتبارًا من ثبوت تلك الرؤية”.(ص 331).
يتجاوز البدو أخيرًا الجدل حول ثبوت هلال شهر رمضان، ومدى صحة بدء صيامهم، “وراح البدو يحيون تلك العلامة السماوية بشيء من الأدعية الدينية، وبخاصة أن تلك العلامة جلبت لهم شهر التدين والتقوى، سكان الصحراء يصومون كل شهور حياواتهم، وهم يلتزمون بذلك الصيام اليومي ويراعونه بدقة بالغة في ذلك الشهر الفضيل، ولكن رمضان عند البدو عبارة عن إرهاق غير عادي يشيع فيه تأوهات هؤلاء البدو وشكاواهم، إذ يُصبح من الصعب على هؤلاء البدو الامتناع عن الشرب وعن تدخين التبغ لحين غروب شمس الصيف، بل إن المتزوجين يفترقون عن زوجاتهم طوال أسابيع الصوم”.(ص 331).
يحظى البدو بشفقة تشارلز داوتي لمعاناتهم محنة الصيام في ذلك الجو القائظ، إذ يُقرّ بأن “هؤلاء العرب الذين يُعانون معاناة شديدة من العطش في الأيام الأولى من شهر رمضان، يستلقون على صدورهم يتنهدون ألمًا طوال ساعات النهار التي تمر بطيئة عليهم، ويروحون يركزون أبصارهم وأفكارهم على ضوء النهار إلى أن تغرب “عين الشمس” مبتعدة عنهم، وبعد انقضاء خمسة أو ستة أيام من أيام شهر رمضان، يكون هؤلاء العرب قد اعتادوا على الابتعاد عن حرارة وضوء النهار، ويحاولون استغلال الليل إلى أبعد الحدود. وإذا ما صادف شهر الصوم موسم حصاد القمح، أو حصاد محصول التمر، فإن العاملين في جمع هذه المحاصيل يتعين عليهم تحمل العطش البالغ من أجل الدين”.(ص 334).
يؤكد داوتي على تمسك المرأة البدوية بالصوم، بالرغم من مقاساتها أشد الآلام في ذلك الصيام، ويقدم لنا نموذجًا في “زوجة محسن” فهي تكابد وتثابر على مشقة شهر رمضان في تلك الأجواء شديدة الحرارة نهارًا شديدة الرطوبة ليلًا؛ “لأن لها طفلًا ترضعه من ثديها، وبقوة العزيمة والمثابرة حافظت… على شهر الصوم، ولم تكن تشرب أو تأكل إلا بعد غروب الشمس”. ولهذا يسمع داوتي “نساء البلدة، وهن يمتدحنها ويثنين عليها، كانت مثلًا للبدوية البسيطة التي تحظى بإعجاب الجميع، النساء المتدينات الحوامل تصمن أيضًا، وفاء بتعاليم دينهن، وهن يجبرن أطفالهن الصغار على الصيام أيضًا”.(ص 356).
يقول داوتي: “بعد غروب الشمس، وفي قرى نجد، يرى الناظر إلى وجار القهوة مجموعة كبيرة من دلال القهوة منها الكبير، ومنها الصغير…، وهم جالسون، وأمعائهم خالية، وكلهم يراقبون ضوء الشمس الذي يختفي رويدًا رويدًا خلف أعراف النخيل، إلى أن سمعنا صوت المؤذن، وهو يرفع الأذان لأداء الصلاة، عند هذه المرحلة فقط يُصبح بوسع الشخص المتدين أن يضع في فمه لقمة من الطعام، ويقوي نفسه، وعلى الفور بدأ تقديم القهوة، وبعد أن تناول كل واحد منهم فنجالا واحدًا بدأ يفرد عباءته أمامه في اتجاه القبلة، وراح يؤدي الصلاة. بعد أداء الصلاة، يجرى تقديم الوجبة الأولى التي يُطلقون عليها اسم الفطور، أو إن شئت فقل الإفطار، كان الإفطار في منزل خلف عبارة عن “عساليج” من التمر الطازج الذي جرى إحضاره من النخلة، تناولوا الطعام، بالرغم من أنهم كانوا يُعانون من العطش طوال النهار، ولم يشربوا ماء طوال تناول الطعام، وبعد التمر وضعوا أمامنا شرائح من بطيخة كبيرة”.(ص 344)
ما سجله داوتي بكل المقاييس أفضل وأشمل دراسة عن كل ما يتعلق بحياة البدو ومعيشتهم، وكيف نظر إلى المسلمين وهم يقاسون الصيام في طبيعة الحياة القاسية من حرارة الطقس نهارًا، وبرودته ليلا، وقلة المياه، وجدب المعيشة، وهي أمور يتحملها البدو بصبر وأناة.
ينتهي شهر رمضان، فتعمّ الفرحة كل المخيم، ويبدأ الاحتفال بعيد الفطر من قبل غروب شمس آخر يوم في شهر رمضان، وعن ذلك يقول داوتي: “أخيرًا غربت شمس آخر أيام شهر الصوم، مُعلنة انتهاء شهر رمضان، ومع طلوع اليوم التالي مشيت مع محسن إلى تيماء؛ لتناول طعام الإفطار هناك، هيا يا خليل اليوم عيد وسوف تفرح وتمرح، الحمد لله، قال محسن إن شهر الصوم قد انتهى، أنت تشبه شخص أطلق سراحه من السجن، صدقت والله، فأنا أبدو مثل رجل خارج من السجن، وأنا من حقي الآن أن أشعل غليوني، أنا ذاهب لتناول طعام الإفطار مع بعض معارفي، ألا تعرف تقاليدنا وعاداتنا التي تبيح لنا أن نأكل شيئًا من كل دار صديقة. سيأكل الناس اليوم حتى الشبع، وأمامنا اليوم سبيلين، إما التجوال وتناول الإفطار مع من تعرفهم، وهنا يتحتم عليك أن تقول عيدك مبارك، في أي مكان تدخله، أو هيا بنا أنا وأنت نتحرك سويًا لتناول الإفطار معًا. كان الانتعاش يبدو على وجوه القرويين في هذا اليوم من أيام العطلات، وبخاصة أثناء شروق الشمس، لقد اكتسبوا جميعًا فوائد الصيام ومزاياه، وهاهم اليوم يرتدون ثيابهم الجديدة، الكثيرون منهم يعطرون غتر رؤوسهم، ولحاهم وعباءاتهم، وذلك بوضعها فوق الدخان المتصاعد من المبخرة، البعض منهم يتعطر أيضًا بماء الورد، هؤلاء هم المعيدون يخرجون من كل الأبواب، ويدخلون من كل الأعتاب، وهم يتزاورون ويحيون بعضهم بعضَا من بيت إلى بيت، وحيثما يدخل الرجال، يقدم لهم طبق العيد الذي يحتوي على الخبز المحلى، وهذه جحافل تنهال جالسة على ركبها من حول ذلك الطبق، في التو واللحظة، والكل يرفع اليد اليُمنى مملوءة بالخبز، في اتجاه الفم، ويتكرر ذلك، مرة واثنتان وثلاث مرات، إلى أن يظهر قاع الطبق المعدني، وعندها ينهض الجالسون لينتقلوا إلى تناول الإفطار في البيت التالي، ثم البيت الذي يليه، إلى أن يمروا على كل منازل المنطقة، وبعد ذلك، وبعد أن تمتلئ بطونهم، يتجمعون ويدخلوا بيتًا من البيوت الصديقة لتناول القهوة، وحيثما يدخل هؤلاء الناس يقولون: عيدك مبارك، والناس هنا يردون على هذه التحية بقولهم: عدي علينا، وحنا عايدين، بمعنى ونحن أيضًا نحتفل بالعيد. ويمضي الناس النهار بطوله يتجولون هنا وهناك، في ملابسهم الجديدة والمزينة بخطوط حريرية بغدادية ذهبية اللون، ومعها خيوط قطنية وردية اللون، وهذا المنظر يكون له بريقه في هذا البلد الذي لا لون له. وقد رأيت اليوم رجلًا يرتدي ثوبًا قام هو بتلوينه، وكان يقف وسط الشارع الطيني ويلبس عباءة قرمزية اللون”. (ص 385، 386). ويختتم داوتي بالإشارة إلى أن “احتفالات العيد تستمر ثلاثة أيام”، ولكنه رغم ذلك شاهد “القرويين في اليوم الثاني وهم يخلعون ملابسهم الجديدة، ويذهبون لاستئناف عملهم في الحصاد”. (ص 388).