الأستاذ سعيد النورسي ذلك الرجل الهادئ في أيام القلق والتوتر، أخذ على عاتقه حمل ثقيل، حمل الشعلة الإيمانية، وهو الذي استنشق هواء الخلافة وعاصر أواخرها لكن ما لبثت الأحداث تتغير، ووجد نفسه في عهد قضى فيه نهائيًّا على ما تبقى من نور السماء.
وفي ظل هذا الوضع تجند رحمه الله لإشاعة النور الإلهي سرًا وعلانية، وقد أخذ على عاتقه هذا الهم وهو يعلم أن اليأس بدأ يعشعش في نفوس الأمة المحمـدية، بعدما تساقطت كل الثغور الإسلامية على يد المستعمر، ولم يتبقى إلا ثغر الخليفة في بلاد الأناضول، وهذا الأخير بدوره يعاني وقد أوشك على السقوط. وأثناء هذا الوضع المزري توجه رحمه الله إلى دمشق ليدق بذلك ناقوس الخطر، مستنهضًا الهمم ومذكرًا أبناء الأمة الإسلامية برصّ الصفوف ومواجهة الأمراض الفتاكة التي دخلت نفوسهم.
للأمكنة دلالة:
في الشام ومن على منبر المسجد الأموي الكبير، خطب خطبته الشهيرة التي اشتهرت ب”الخطبة الشامية” ولهذه الأخيرة دلالة رمزية قوية، إذ الكل يعرف ما لدمشق والمسجد الأموي من رمزية تاريخية في نفوس العرب والمسلمين، وإيمانًا منه رحمه الله بكون الإنسان المسلم جسد واحد رغم تباعد البقاع وتباين الثقافات، فهناك دائمًا وأبدًا ما يوحدنا ما بقي القرآن قائمًا.
نعم، قد نضعف ونتأخر هذا وارد لدى كل الحضارات عبر التاريخ البشري، غير أن الضعف لا يعني الموت الأبدي، فالهزيمة قد تدفعنا للاستيقاظ ومراجعة الذات والوقوف على مكامن الخلل. وهذا بالفعل ما انتبه إليه الأستاذ النورسي رحمه الله وأعلنه أمام الجمع الغفير من العلماء والمثقفين في أرض الشام متسائلاً عن الأسباب التي دفعت الآخرين للتقدم والاندفاع نحو المستقبل وتأخر المسلمين؟.
الأستاذ النورسي معالجًا مكامن الخلل:
وبعد تشخيص دقيق للوضع، توصل رحمه الله إلى ستة أمراض قاتلة أصابت جسم الأمة المـحمدية إن لم يتداركها المسلمون بالتوعية والعلاج لربما تبيدهم بلا رجعة وهي كالآتي:
أولها: اليأس الذي دخل النفوس وأصابها بالشلل
: واليأس هو: القُنوطُ وانقطاع الأمل، وإحباطٌ يصيب الروحَ والعقلَ معاً، فيفقد الإنسان الأمل في إمكانية تغيُّر الأحوال والأوضاع والأمور من حوله، إنه من أخطر الأسلحة فتكًا ودمارًا ولا يتوان أعداء هذه الأمة في نشر هذا المرض في صفوف أبنائها من خلال وسائل مختلفة. وسيراً على هذا النهج حذر الأستاذ فتح الله كولن في افتتاحية مجلة حراء العدد 17، من خطورة اليأس بقوله: “اليأس عفريت يقطع عليك الطريق، وفكرة العجز وانعدام الحيلة مرض قاتل للروح، والذين برزوا في تاريخنا المجيد برزوا لأنهم ساروا بكل عزم وإيمان. أما الذين تركوا أنفسهم لمشاعر العجز والقنوط فلم يقطعوا أرضًا، بل ضاعوا في الطريق”.
ثانيها: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية: وبذلك انتشر الكذب والرياء، وهل يصلح الله قومًا كذابين خداعين؟ حاشاه سبحانه أن ينصر القوم الكاذبين، إنه يقف في صف الصادقين المؤمنين المدافعين عن الحق. فالصدق نهج الأنبياء والمرسلين فمتى ابتعدنا عنه أذلنا الله. وفي ذلك آيات كريمة وأحاديث نبوية كثيرة، وذلك لأن “الصدق أهم أسس الإسلام وأبرز صفة في الخلق المـحمدي وحجره الأساس والصفة المميزة للأنبياء والأولياء والمحور الأساس للرقي المادي والمعنوي. الصدق صفة الملائكة والكذب صفة الشياطين. الأول صفة العبيد المكرمين عند الله، والآخر صفة الأرواح الخبيثة. الأول صفة فخر الكائنات عليه أكمل الصلوات وأتم التسليمات والآخر صفة الدجالين”.
ثالثها: العداوة التي أصبحنا نحبها أكثر من المحبة نفسها: يريد رحمه الله من خلال هذا المؤشر أن يوجه رسالة إلى الإنسانية جمعاء، وفحوى هذه الرسالة أوقفوا العنف والعداوة، فالصراع لا يؤدي إلى نتيجة، إنه مهلك للإنسانية، وعليه، فالقيمة البديلة هي الحب اللامشروط، فهو وحده قادر على ردم كل الفجوات تنقلب من خلاله العداوة إلى رأفة ورحمة وشفقة.
رابعها: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض: هذه النقطة غاية في الأهمية بقدر ما هي تناشد اللحظة فهي أيضًا خطاب نحو المستقبل لنا ولأجيالنا القادمة، إنها صرخة لتحقيق الوحدة الاسلامية، “فالزمان ليس زمان الانطراح على فراش الكسل والخلود إلى الراحة وعدم المبالات بالمسلمين”، فالكل مسؤول في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة.
خامسها: الاستبداد الذي فشا وتغلغل فينا بدءًا من أسفل الهرم إلى أعلاه: إن الاستبداد ينخر كل مقومات الإنسانية، إذ لا حياة مع الاستبداد كيف ما كان نوعه، و”ليس من سبيل لنا إلى كسر هذه الأغلال إلا بالالتجاء إلى الحرية الشرعية نقيمها بيننا ونتداعى إلى تعاون إسلامي في ظلها”.
سادسها: حصر الهمة في إطار المنفعة الشخصية وعدم الالتفات إلى المنفعة العامة: وهذا مرض خطير أيضًا استشرى في نفوس أبناء الأمة الإسلامية أصبحنا أنانيين أكثر من اللازم وتضخمت الأنا فينا ولم يعد نكترث للصالح العام إلا لمامًا، وهذا ليس من نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلو رجعنا سيرته العطرة سنجد حياته صلى الله عليه وسلم مليئة بالتضحية من أجل المنفعة العامة وخدمة الإنسان.
بروح الخدمة والتضحية من أجل الصالح العام، تحرك الأستاذ بديع الزمان إلى بلاد الشام مستنهضًا الهمم وحاملاً على عاتقه وظيفة التبليغ والإرشاد للوقوف حيال حركات الإفساد ملقيًّا دروسًا قيمة لدفع الشبهات ورفع إيمان المؤمنين من مستوى التقليد إلى مستوى التحقيق، ومن جهة أخرى بين للمسلمين كيفية السير في دروب وعرة مليئة بالألغام والأشواك والدواهي من خلال ما سطر من الرسائل والملاحق.
نعم بهذه الروح الإيجابية سطر حياته بمداد المعاناة والمكابدة، مبتغيًّا بذلك خدمة الإنسان والإنسانية، مزينًا كلماته بالقرآن الكريم ومقتفيًّا نهج فخر الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، حاملاً في يده اليمنى كتاب الله وفي اليسرى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل في المكتوبات من رسائله:
وما مدحت القرآن بكلماتي ** ولكن مدحت كلماتي بالقرآن
إنها مدرسة أصيلة تمتح من منبع رقراق، وبما أنه كذلك فالحاجة ماسة إلى فكر مؤسسيها، لأنه فكر نقي متجدد ينفذ إلى أعماق القضايا الإنسانية. فهل هذه الروح ما زالت سارية اليوم؟
أقول نعم، فموت الأستاذ رحمه الله لا يعني موت المنهج، فهذا الأخير استمر نوره متدفقًا نحو المستقبل، فعندما تقرأ نورانيته رحمه الله تجده يخاطب من حين لآخر أجيالنا والأجيال التي بعدنا بوعي تام.
نعم، بهذه الأفكار العظيمة والخلق الرفيع والعمل الجاد سطر الأستاذ حياته وخلد أفكاره، وعظمة الفكرة لا يضارعها إلا عظمة أخلاق صاحبها. فحبه للإنسان وخدمته اللامشرطة له، كل ذلك جعله يسمو في أعين محبيه من بعده، فكيف لا يكون ذلك!، وهو القائل عن نفسه “يا سعيد كن صعيداً”. في نكران تام للذات، وترك للأنانية، وتواضع مطلق كالتراب؛ لئلا تعكر صفو رسائل النور، وتقلل من شأنها في النفوس”.
بهذه الروح السامقة توجه إلى الشام موجهًا خطابه أساسًا إلى الإنسان المسلم ومن بعد إلى الإنسانية جمعاء، فاحصًا الأمراض بدقة ومقترحًا الأدوية المناسبة لكل داء على نهج الأطباء المهرة الذين تتلمذوا على معلم الانسانية محمد صلى الله عليه وسلم.
أعتقد لو أن المسلمين اليوم ومعهم كل الإنسانية إن عملوا بالتوجيهات والأدوية التي اقترحها الأستاذ النورسي رحمه الله لشفت من الأمراض التي أصابتها.