﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر:21)
لقد تراءت لي نكتةٌ لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونورٌ من أنوار تجليات اسم اللّٰه: “العدل” الذي هو اسم اللّٰه الأعظم، أو هو نور من أنواره الستة.
تراءى لي ذلك النور من بعيد -كما هو الحال في النكتة الأولى- وأنا نزيل سجن “أسكي شهر” ولأجل تقريبه إلى الأفهام نسلك أيضاً طريقَ ضرب الأمثال. فنقول:
هذا الكون قصر بديع يضم مدينةً واسعة تتداولها عواملُ التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكةٌ واسعة تَغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة. وبين جوانح تلك المملكة عالمٌ عظيم يسبَح كلَّ حين في خضم الموت والحياة..
هذا الكون قصر بديع يضم مدينةً واسعة تتداولها عواملُ التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكةٌ واسعة تَغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة.
ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فإن موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعمليةَ وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل أرجاء المملكة وأطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنةً، بحيث تدل بداهة على أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون إلاّ بعملية وزنِ وكَيْلِ، وميزانِ مَن يرى أنحاءَ الوجودِ كلَّها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين…
ذلكم الواحد الأحد سبحانه. وإلاّ فلو كانت الأسباب الساعية إلى اختلال التوازن سائبةً أو مفوضة إلى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعةِ المظلمة البلهاء، لكانت بُويضاتُ سمكةٍ واحدة التي تزيد على الألوف تخل بتلك الموازنة، بل بذيراتُ زهرةٍ واحدة -كالخشخاش- التي تزيد على عشرين ألفاً تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في أرجاء الكون..
كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموازنة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويُفسد التوازنَ الكامل بين أجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد. ولكنتَ ترى العالم وقد حلّ فيه الهرْجُ والمرْج.. وتعرّض للاضطرابات والفساد.. فالبحار تمتلئ بالأنقاض والجثث، وتتعفن.. والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد. والأرض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.
تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات وإعاشتهما وحياتهما على الأرض والتي يزيد عدد أنواعها على أربعمائة ألف نوع، تَرَ موازنةً رائعة ذات رحمة
فإن شئت فأنعم النظر، في الموجودات كلِّها، ابتداءً من حجيرات الجسم إلى الكريات الحمر والبيض في الدم، ومن تحولات الذرات إلى التناسب والانسجام بين أجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها إلى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات وَوَفَياتها إلى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم إلى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام إلى تعارض الحرارة والبرودة..
وما شابهها من أمور، كي ترى أن الكل يوزَن ويُقدَّر بميزانٍ خارقِ الحساسيةِ، وأن الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الإنسان ويشاهِد أكملَ نظامٍ وأتقنَه في كل شيء فيحاول أن يُريَه، ويرى أروَع توازنٍ وأبدعَه في كل موجود فيسعى لإبرازه. فما العلوم التي توصَّل إليها الإنسان إلاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.
فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثني عشرة التي كل منها مختلفة عن الأخرى، ألا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على اللّٰه سبحانه الذي هو “العدل القدير”؟
تأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثني عشرة التي كل منها مختلفة عن الأخرى، ألا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على اللّٰه سبحانه الذي هو “العدل القدير”؟
ثم تأمل في الأرض -وهي إحدى الكواكب السيارة- هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولُها بأربع وعشرين ألف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر الموادَّ المنسقةَ على سطحها ولا تضطرِب بها ولا تُطلقها إلى الفضاء.. فلو زيد شيءٌ قليل في سرعتها أو أُنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها إلى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة -بل لثانية واحدة- لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.
ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات وإعاشتهما وحياتهما على الأرض والتي يزيد عدد أنواعها على أربعمائة ألف نوع، تَرَ موازنةً رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على الخالق العادل الرحيم جلّ جلالُه، كدلالة الضياء على الشمس.
المصدر: كليات رسائل النور كتاب اللمعات ( اللمعة الثلاثون صفحة 469)