الخلاف شر لا بد منه، فالعقول تختلف والتربية تختلف والأولويات تختلف وزاوية نظرنا للأمور كذلك تختلف، يأتي الخلاف ليعري كل ما ستره التطبع، تسقط الأقنعة وتُعْلَنُ الفضيحة، في خلافنا يظهر العَجب، تصفعك الحقيقة لترديك صريعًا في ظلمات الحيرة، هل أنت على صواب؟ أم على خطأ؟ هل تتنازل؟ هل تعتذر؟ هل تقف مكانك أم تمضي إلى الأمام؟ عند الخلاف يأخذ الناس يا عزيزي مواقعهم:
تكتشف الصديق غير الشجاع الذي يسندك بالغيب لكنه لا يملك نصرك في العلن، ربما يُكِنُّ لك مكانة في نفسه لكنك غير مؤهل لأن يغامر من أجلك.
تكتشف الصديق الكذوب الذي يجاملك ويبتسم لك بل ربما يشجعك على خيارك لكن ما إن تُدِرْهُ ظهرك حتى يجلدك بسياط لسانه.
تكتشف الصديق الانتهازي ذاك الذي يصنع من الخلافات موجًا يركبه ليُرِيَ الناس مواهبه في التملق واقتناص فرص العمر ومن جمال كلامه ما تطرب له الآذان ولا يسمع به الميدان.
تكتشف الصديق الحسود: ذاك الذي رأى الخلاف فرصته الذهبية لتشويه صورتك “الجميلة”، يتنكر لك ويبدي لك ما كان يخفيه من غِل، ويفيض القِدر بما ضاق به الصدر.
تكتشف الصديق المُحايد: لا يتدخل في الخلاف ما لم يعنيه محايدًا يكفيك شره.
تكتشف الصديق المتعصب الذي يساندك لأنه يحبك، دون النظر في صواب أو خطأ ما تفعل، هَمُّه أن يكون إلى جانبك يساندك ويشد على يديك دون النظر في العواقب.
تكتشف الصديق الصدوق ذاك الذي ينصحك ويرشدك، ذاك الذي يشفق عليك أن تتأذى، ينصحك حتى لو كرهت نصحه وضجرت منه، يأبى عليك أن تنصاع لهواك وتضيع في خضوعك للأنا.
وغير هذا ستكتشف الكثير من أنواع الأصدقاء الذي ربما لم يَجُل في مخيلتك يومًا أنهم موجودون، ستكتشف الكثير من الأسرار عن بني الإنسان فمنهم من يرقى فتراه ملاكًا على الأرض يمشي ومنهم من يدنو حتى تحسبه شيطانًا يسعى في هلاك البشر.
الاختلاف يا عزيزي لا يصنف الآخرين وحسب؛ بل يصنفك أنت أيضًا، فاختر تصنيفك بعناية، لا تقبل التطاول على الحق، سينتهي الخلاف ويتصالح المختلفون لكن إياك ثم إياك أن تجد نفسك قد نفتها المبادئ إلى معتقلات المصالح؟ أن تكون قد وقفت ضد الحق أو سكَتَّ ولم تنصر الحق؟ أن تكتشف بعد فوات الأوان أنك بِعْت نفسك بثمن بخسٍ مصالحَ معدودة! مهما كان الثمن ومهما تخيلت عِظَم الخسائر أُثْبُت فالعاصفة مهما كانت قوية سَتَمُرُّ فلا تقبل أن تمضِيَ وتتركك حطامًا!.
خلافاتنا ما أبشعها من مرآة تكشف قبح الصورة فلا تترك عيبًا إلا فضحته: تفضحنا وتفضح من خالفنا وتفضح من حولنا تكشف أصناف الناس وكثيرًا عن أحوال سرائرهم. تفضح تعصبنا للأنا، تفضح غرورنا، تفضح حمِيَّتنا الجاهلية، تخبرنا كم كُنَّا سُذجا أو كم كان ظننا سيئًا، تخبرنا كم كانت سطحيةً نظرتنا للأشياء أو كم كانت تلك النظرة عميقة وثاقبة، تُظْهِر ضعفنا كما قد تُظهِر قوّتنا، تُظهِر سُمُوَّنا كما قد تظهر دناءتنا، تظهر حِلْمَنا كما قد تظهر طيشنا، تكشف أجمل ما فينا كما قد تفضح أقبح ما نحن عليه.
من الخلاف ما قد يضعك في حالة ذهول فالستة التي تراها أياما تُعمر فيها الأرض يراها بعضهم تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
خِلافاتنا تُسْقِطُ أوسِمَة كثير مِمن حولنا، فيصير بعض الصديق غريبًا بعيدًا وبعض الغريب صديقًا حميمًا ويظل بعضهم مكانه، خلافاتنا تلك النار التي أُوقِدَت على معادننا فيمكث ما ينفع علاقاتنا ويذهب الزبد جُفَاء، فترى معادن بعضهم تضيء ولو لم تمسسها نار، ومعادن بعضهم تلمع ناصعة براقة كما كانت عليه، ومعادن بعضهم قد بهتت وخفتت وانطفأ نورها إلى الا بد، فعند الخلاف تُعَزُّ معادننا أو تهان.
الخلاف ما أقساه، يضعك أمام امتحان مفاجئ يختبر فيه كل ما تعلمته من الحياة، أخلاقك، مبادئك، مرونتك، حكمتك، وسَوَاءً نجحت أم رسبت، سواء كنت على صواب أو على خطأ فاتخذ منه نقوشا على صخور ذاكرتك لا يمحوها النسيان، عُد إليها كلما هممت بعلاقات جديد أو ربما قررت خوض غمار خلافات جديدة، لكن أنصحك يا عزيزي أن تترك أحكامك سرا بينك وبين نفسك، وأبق على رقي أخلاقك ولا تعامل الناس بالمثل، لا تسمح لهم أن يبدلوك، لا تتغير لتسايرهم، تعلَّم من مُحْسِنهم إحسانه لتقلده، وتعلم من مسيئهم إساءته كي لا تكررها، تعلم من أصناف الناس مايدعوك لتعامل الناس بأفضل ما أحببت أن يعاملك به مخالفوك، حسن الظن وعفة اللسان والْتِمَاس العُذر وسرعة العفو دون غِلٍّ أو حِقد، وجَانِب في خلافك ما كرهت من مخالفيك
إننا للأسف أيها الطيبون نفتقر في كثير من خلافاتنا إلى العدل والإنصاف، أن نخرج من الإطار وننظر للأمور بحياد، أن نحتكم للعقول بدل العواطف، أن نستر عيوبنا بثياب أخلاقنا فنتفادى الغضب والحمية، ويعذر بعضنا بعضا، أن نرى الخلاف تبادلا للتجارب والرؤى، ففي الحياة من الألوان ما يغنينا عن نظرة الأبيض والأسود.