كثيرة هي الدعوات اليوم – ومنذ ما يقارب عقدا من الزمان وفي مختلف أرجاء المعمور – إلى مراجعة النظريات والمناهج الاقتصادية وتقويم السياسات الاجتماعية التي تخطط لمعيش الإنسان ونمط سلوكه، فالمسافة الزمنية التي تفصلنا بين “تجريب” وترجيح نموذج حياتي معين تمكن من النظر إلى نتائجه بشكل واضح وجلي، والتي قد تكون لحظة ولادته والتبشير به والدعوة إليه والدعاية له محفوفة بمجموعة من عوائق اللحظي والتحمس الذي تعجز معه الملكات الإنسانية عن السفر العميق في عواقبه، والذي يتطلب بعد النظر العابر للعقود والأجيال.
لقد كان النموذج الاستهلاكي المرتبط بمبشرات التقدم ملاذا تهفو إليه المجتمعات بمختلف مشاربها وألوانها، بل عليها أن تتبناه إن هي أرادت أن تحظى بمقعد في نادي “الإنسانية” المتحضرة. مما زاد من تنامي الوعي في الألفية الثالثة بحكم التقدم في الزمن، وتراكم الخبرات، وتطور آليات الاختبار والتقويم، والمعاناة الميدانية التي لا تقبل أي جدل أو مكابرة، والذي نبه إلى مدى محدودية الاختيارات التي ادعت إسعاد الإنسان منذ أواخر القرن التاسع عشر تحت مسمى “التقدم” والعيش الرغيد، والذي جرى وراء الكسب التقني والعلمي بشكل لم تعرف الإنسانية نظيرا له طيلة تاريخها، وبات مطمح الأنفس والأمم ومعيار التصنيف والمقارنة والتفاضل بين الحضارات والشعوب مؤمنا بأن الأخذ بأسباب التكنولوجيا وتحصيل منافع الإنتاجية المفرطة هي منتهى سؤل وأمل الإنسان، كل ذلك في تيه كبير عن مآلات هذا التسابق المحموم، وغرق كبير في الحاضر والآني المتلبس بالذاتية والأنانية والفردية.
إن الحقيقة الواقعية الماثلة للعيان هي أن إمكانات الأرض التي نحيا فيها محدودة، والهوى الاستهلاكي الذي تربى عليه إنسان زمننا المعاصر في تزايد لا محدود..
إن الحقيقة الواقعية الماثلة للعيان هي أن إمكانات الأرض التي نحيا فيها محدودة، والهوى الاستهلاكي الذي تربى عليه إنسان زمننا المعاصر في تزايد لا محدود؛ مما ينذر بالكارثة والفوضى والدمار وغير ذلك من الأوصاف التي عرفت طريقها إلى البحث الاقتصادي والاجتماعي، والتي تعمل على تقويم الاختيارات المعيشية الحالية التي تلهث وراء “سراب النمو”؛ إذ لا تحقق إلا “الدرجة الصفر” في معدل التنمية الحقيقي، بحيث تهوي بالأجيال المقبلة في متاهات المجهول الذي تحاول كشف العتمة عنه، وتبيان خيوط أشعة النور التي تمكنت من الإبصار والتمييز به أبحاث كثير من أهل العلم بشقيه الإنساني والحق، حيث يمكن اعتبار البحث عن اقتصاد أو مجتمع “إنساني” عنوانا ضخما له.
فكثيرة هي أصوات الغيورين من المتنورين على “الإنسان”، والتي تدعو إلى تدارك الانزلاق الخطير عن سكة الرشد الإنساني بتبني مقاربات مندمجة للتقدم والتنمية تراجع منظومة إسعاد الإنسان ومعايير تحقيقها، كما تجمع بين الحاضر والمستقبل ولا تتنكر للماضي، وتوائم بين المحلي والكوني، وتجسر بين الخاص والعام والفردي والجماعي في جلب المصالح والمنافع ودرء الفاسد والمضار، كل أولئك في توازن خلاق تتحمل فيه الإنسانية جمعاء مسؤولية الإنقاذ والتصحيح، والبحث عن البدائل التي تجعل الإنسان قادرا على حماية أسباب الحياة حالا ومآلا في كل أبعادها المادية والمعنوية، والسعي إلى التعاون والتآزر بأفق حقوقي حقيقي يوسع من دائرة مصفوفته المعيارية التي هي ليست مجرد أرقام صماء، بل علامات تنبض بالحياة وتؤسس للمعنى الواقعي للعيش السليم.