لقد قدمتُ إلى الولايات المتحدة في عام 1999 بسبب ظروف صحية ألـمّت بي، فقد كنت أعاني من مشاكل في القلب، فضلا عن أمراض الضغط والسكر والكوليسترول. وبعد إجراء فحوص دورية في تركيا، قرر الأطباء أنني في حاجة إلى عملية جراحية في القلب، فألح عليّ بعض الأصدقاء بالقدوم إلى هنا لإجراء العملية ومتابعة الفحوص الطبية، ثم قاموا بالحجز لي في مستشفى “مايو كلينيك” الشهير في هذا النوع من الفحوصات.
قدمتُ إلى أمريكا في عام 1999 بسبب ظروف صحية ألـمّت بي، فقد كنت أعاني من مشاكل في القلب.
وبالفعل قرر الأطباء هنا إجراء نفس العملية الجراحية، فطلبتُ منهم مهلة للتفكير، ثم بدأوا في إجراء الفحوصات اللازمة لحين اتخاذي القرار.
حملة تشويه منظمة
وفي غضون ذلك بدأت حملة منظمة ضدي في وسائل الإعلام التركية الحكومية والخاصة، حيث اقتطعوا مقاطع مسجلة من بعض دروسي، وصوروني ساعتها على أني أسعى لتقويض النظام العلماني في البلاد. وهو بالمناسبة نفس ما يردده أردوغان وحلفاؤه في تركيا اليوم.
وبدأت هذه الحملة تتضخم يوما بعد يوم إلى أن وصلت إلى أروقة المحاكم. ومع تفاقم هذه الحملة وبالنظر إلى وضعي الصحي الذي شرحتُه لكم نصحني الأطباء والإخوة المرافقون بتجنب العودة إلى البلاد في ظل هذه الأوضاع، إلى أن تهدأ الأمور وحتى لا تزداد حالتي الصحية سوءا.
أقبع هنا منزويا في منفاي الاختياري في هذه القرية الصغيرة في ولاية بنسلفانيا لا أغادرها إلا لضرورات العلاج.
فرأيتها فرصة مناسبة لاستكمال الرعاية الصحية التي كنت قد بدأتها، كما فكرت أن ابتعادي فترة ما عن البلاد في ظل هذه الأوضاع قد يكون عاملا من عوامل تخفيف حدة التوتر وعودة الهدوء. ومن جهة أخرى فقد كانت هناك جهات متحفزة في البلاد للتضحية بكل المكاسب الديمقراطية التي أحرزها الشعب خلال السنوات الماضية، وكانوا يخططون لاستغلال عودتي من الخارج لتنفيذ مخططاتهم تلك، لذلك كله اتخذت قرارا بتأجيل العودة رغم ما كنت أشعر به من حنين جارف للوطن.
منفى اختياري
ومنذ ذلك الحين وأنا أقبع هنا منزويا في منفاي الاختياري في هذه القرية الصغيرة في ولاية بنسلفانيا لا أغادرها إلا لضرورات العلاج أو إجراء بعض الفحوصات والتحاليل، ومرة أو مرتين ذهبت للإدلاء بإفادتي في التهم التي وجهتها لي المحاكم التركية أمام النائب العام الأمريكي في ولاية نيوجيرسي.
تبين لاحقا أن دعوة أردوغان كانت مناورة سياسية هدفها إحراجي للعودة إلى تركيا ومن ثم محاكمتي في محاكمهم الخاصة التي كانوا يشكلونها.
وأصدقكم القول، لقد راودتني أفكار العودة إلى الوطن مرات عديدة، وكادت هذه العواطف تغلبني نوعا ما، لكن الأوضاع في تركيا وازدياد حدة التوتر والانقسام المجتمعي، وبث روح الكراهية بين أفراد الشعب الواحد، كلها كانت عوامل تدمر حالة التوازن والانتظام التي ينبغي أن يكون عليها البلد، والتي من المستحيل أن يؤسس عليها نظام اجتماعي وديمقراطي راسخ. كما كنت أخشى أيضا أن تستغل عودتي في ظل هذا الوضع في إحداث نوع من العمليات الاستفزازية.
دعوة أردوغان
لقد تلقيت دعوات متعددة للعودة إلى البلاد من المسئولين على مختلف مستوياتهم، ولا سيما بعد مصادقة المحكمة العليا في البلاد على براءتي من كل التهم المنسوبة إلي، وذلك في العام 2008 بعدما استمرت زهاء الثماني سنوات في أروقة المحاكم، لدرجة أنهم أرسلوا طلبا إلى النيابة العامة هنا في أمريكا للإدلاء بإفادتي أمامها.
وكانت آخر هذه الدعوات من أردوغان شخصيا عندما كان يلقي كلمة في حفل بإسطنبول بأحد أكبر ملاعبها لأحد الأولمبياد العالمية للغات والثقافات التي كانت تنظمها حركة الخدمة، ويشهده أكثر من مائة ألف مواطن تركي. وقد تبين لاحقا أنها كانت مناورة سياسية هدفها إحراجي للعودة إلى تركيا ومن ثم محاكمتي في محاكمهم الخاصة التي كانوا يشكلونها.
إنني في السابعة والسبعين من العمر، ليس لي أي هدف في هذه الحياة سوى العمل على مرضاة ربي والاستعداد إلى لقائه.
وهو ما أفصح عنه قبل مدة نائب برلماني حاليا ومستشار سابق لأردوغان في أحد أعمدته التي يكتبها، لقد صرح قائلا: ” الذين اطلعوا على الحملة التي قادها أردوغان ضد حركة الخدمة منذ العام ٢٠١٠ يعلمون جيدا أن هذه الدعوة لم تكن تحمل أدنى ذرة من ودّ أو محبة، وإنما استهدفت إحراج فتح الله كولن، وكذلك زادت من تأجيج نار النزاع، ويعلمون أنها كانت مناورة من “عبقري سياسي” فريد”.
القضاء الأمريكي
لقد كانت لديّ خيارات متعددة للإقامة فيها بجانب أمريكا، بعضها في البلاد العربية وأخرى في أمريكا اللاتينية، وبعض البلاد في روسيا وآسيا الوسطى، لكن العوامل الصحية والإجراءات العلاجية التي كنت قد بدأتها جعلت هذه الخيارات تتراجع. كما لفت نظري هنا شيء مهم جدا، وهو طبيعة النظام القضائي في الولايات المتحدة؛ فقد كنت أحصل على الإقامة هنا بموجب ظروفي الصحية، وفي أحد هذه المرات التي كنت أجدد فيها الإقامة تم رفض هذا الطلب، فرفعتُ دعوى قضائية في أحد المحاكم أتظلم فيها من هذا الرفض، وفي نهاية المطاف حكموا لي بحقي في تمديد الإقامة.
لذا وبعد اطلاعي على المنظومة القضائية العادلة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون التي لا تتبدل بتبدل الحكومات والأشخاص، فضلا عن مستوى الرعاية الصحية المتطور في البلاد وجدت أنه من المناسب البقاء هنا.
لو قايضوني على قريتي الصغيرة التي ولدتُ فيها في الأناضول بالولايات المتحدة كلها ما قبلتُ ذلك.
إنني الآن في السابعة والسبعين من العمر، ليس لي أي هدف في هذه الحياة الدنيا سوى العمل على مرضاة ربي والاستعداد إلى لقائه، أعاني من أمراض الشيخوخة، فضلا عن الأمراض التي ذكرتها، لذلك يلازمني بعض الأطباء من أصدقائي، ولديّ هنا عدد من الطلاب الذين يواصلون الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه في الجامعات الأمريكية، نتجمع كل يوم ثلاث ساعات صباحا أو مساء على حسب الظروف، نتدارس معا كتب التفسير وأصول الفقه والحديث، وغيرها من كتب العلم. لذلك فإن انتقالي إلى بلد آخر يعني اضطرار عدد كبير من هؤلاء المحبين إلى تغيير أماكنهم، وتلك مشقة لا أريد أن أكون سببا فيها.
حنين الوطن
إن وطني حاضر على الدوام في خاطري، ولم يغب يوما واحدا عنه، لقد طلبتُ من بعض أصدقائي المقربين أن يحملوا لي بعضا من تراب الوطن إلى هنا، فجمعوا لي ترابا من أكثر من مائة منطقة في تركيا، وعبئوها في زجاجات. وكلما هاج في صدري الحنين إلى الوطن قرّبت هذه الزجاجات من أنفي وبدأت أشمها لأتسلى بها. أنا ابن قرية صغيرة في محافظة أرضروم شرقي الأناضول تدعى كوروجك، فلو قايضوني على قريتي الصغيرة هذه التي تحيط بها الجبال من كل جانب بالولايات المتحدة كلها ما قبلتُ ذلك. هذه هي مشاعري وتلك هي أفكاري.
إذا قدر الله لتركيا أن يزول عنها الطغيان يوما، فلن يكون ساعتها أحب إلى قلبي أكثر من العودة إلى موطني، أعود إليها عودة مواطن بسيط، بعيد عن الصخب والضوضاء، أو أيّ لون من ألوان الظهور والرياء.
المصدر: مواقف في زمن المحنة، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر