لا يخفى أن الأسرة -بوصفها مؤسسة إعلامية مهمة جدًّا وبوصفها مؤسسة تربوية واجتماعية- كانت موقع اهتمام الناس منذ أمد طويل، وقد ازدادت قيمة هذه المؤسسة بقدر ما نافستها مؤسسات أخرى على المستوى الإقليمي والمحلي والعالمي.
إن المتأمل في قضايا الأسرة، يلاحظ أنها قضايا عديدة لم يتوقف المفكرون والمثقفون والمصلحون لحظة من الزمن عن التفكير فيها وتجديدها وتبويئها المكانة التي نريد لها أن تكون عليها، لتحقيق أهدافها بإنجاز المشروع العظيم الذي هو “بناء الإنسان”.
لم يتوقف المفكرون والمثقفون والمصلحون لحظة عن التفكير في قضايا الأسرة وتجديدها وتبويئها المكانة التي نريد لها لتحقيق أهدافها بإنجاز المشروع العظيم الذي هو “بناء الإنسان”.
جناحا الأسرة
إن هذه الأسرة المكوَّنة من عناصر متعددة، ترجع في أصلها إلى عنصرين أساسين؛ الذكر والأنثى. والأنوثة والذكورة من عطاء الربوبية، وهذه العطاءات منحة إلهية تستدعي معانقة المنحة الثانية، وهي المنهج الذي يحدد لهذين العنصرين الأساسين الوجهة المطلوبة، والثبات لإنجاز الفعل الحضاري في المكان والزمان المطلوبين. ولذلك نحن نسائل كل الأفكار التي جنحت إلى إلغاء إحدى المنحتين.. نسائل هذه الفكرة من خلال إفرازات ما أنتجته الإلغاءات النمطية لإحدى المنحتين.. نسائل هذا الفكر كذلك على مستوى إلغاء الذكورة أو إلغاء الأنوثة.
إن وأد الأنثى الحضاري وجعل الغلبة والهيمنة والتأطير الشامل والأحادي للذكورة، فكر منتقد ومرفوض، وما زالت الشريعة تنكره وتعلي من شأن آخر هو شأن الإنسان. كما أن موجة إعلاء وهيمنة الأنوثة لها خطورتها، حيث ألغت جانبًا مهمًّا في الأسرة وفي التكوين الإنساني هو جانب الذكورة.
إن إحالة الذكورة على الأنوثة أو الأنوثة على الذكورة، نوع من إقصاء غير محمود خلَّف وراءه كوارث كبرى، كما أن إسناد التأطير الشامل للأسرة من قبل الذكورة أو الأنوثة، كان له جانبه الذي لا يقل فداحة من حيث عواقبه الوخيمة، ومن ثم كان لا بد من طرح سؤال جوهري ومنهجي:
ما هي المرجعية التي يمكن أن نستند إليها ولا يمكن أن تتهم بالانحياز للذكورة أو الأنوثة؟ هل من مصدر متجاوز للذكورة والأنوثة معًا لصالح مشترك بينهما هو الإنسان؟
إن الفكر العاقل والمنطق السليم يقتضي البحث عن هذه المرجعية، وتحاول البشرية في مختلف عصورها -وعلى كل مستوياتها- أن ترتقي إلى قانون وتشريع منهجي يتجاوز ضغط الأنوثة أو إكراه الذكورة، ولكنها لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن الذي ينتج المؤطر لحركة الأنوثة والذكورة إما أن يكون ذكورًا فيطغى جانبهم الذكوري، وإما أن يكون مصدره مجموعة من النساء الناشطات فيطغى جانب الأنوثة، ومن ثم ندور في حلقة مفرغة.
ولا سبيل لدى التفكير العاقل إلا طريق واحد هو إسناد الأمر إلى جهة محايدة إلى جهة راشدة فعلاً، من صلاحياتها وضع منهج يؤطر حركة العنصرين الأساسين الذكر والأنثى. و لا نملك في البحث عن هذه الجهة إلا مصدرًا واحدًا وهو الله عز وجل من خلال كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فيرتاح الإنسان ويطمئن إلى هذا المستند، ليس من باب الإيمان والعاطفة فقط، بل هذا ما يقتضيه العقل وتَتَبُع حركات التناقض الفكري عبر مختلف العصور.
إننا عندما ننادي البشرية كلها إلى أن تجعل كتاب ربها الذي خلقها، وأن تجعل توضيح النبي صلى الله عليه وسلم المتصل بالكتاب المبين، أن تجعل ذلك هو مصدر حركتها الفكرية وإبداعها المعرفي، إننا نريد أن نضمن -والضامن هو الله تعالى دائمًا- للبشرية منهجًا تشريعيًّا، وسدادًا فكريًّا، وإطارًا معرفيًّا يصلح لحركة الإنسان في أي زمان وفي أي مكان.
بالمناسبة، هناك فكرة يطلقها بعض الغيورين على دينهم، وهي فكرة ظاهرها صحيحة ولكنها تستبطن خللاً فكريًّا في اعتقادي؛ إن قول القارئ “إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان” قول في ظاهره صحيح، ولكن الصواب والأرجح يقال “إن الإسلام يُصلح كل زمان وكل مكان”.
عندما نقول الإسلام صالح لكل زمان ومكان، نجعل الزمان زمان الإنسان المتحرك ومكان الإنسان الفاعل هو الحكم وهو المرجع، ونجعل الإسلام تابعًا لهذه الحركة، وهنا طرف الخطأ المنهجي الذي وضحناه في بداية الكلام، أن الأصل هو أن يكون زمان الإنسان ومكان الإنسان تابعًا لمرجعية عُليا تؤطره، مرجعية خارج الزمان والمكان، مرجعية الوحي السديد المتمثل في الكتاب والسنة.
إن الإسلام باعتباره مصلحًا لكل زمان ومكان، مدعو الآن بلغة الإحصاءات، ولغة الأرقام، ولغة التأمل في عواقب أزمات الإنسان، إن الإسلام مدعو حضوره بقوة وبمنهجية.
أهل هذا الدين وأهل هذا الحق المبين، هم الممثلون القادرون على الحديث حديثًا إبداعيًّا، حديثًا يعانق أزمات الإنسان واحتياجات الإنسان، لأجل أن ينيروا دربه من خلال التفكير المزدوج، عين تتعلق بالمرجعية حتى لا تزيغ، والعين الأخرى تتابع حركة الإنسان حتى يتم تنزيل النص الشرعي على الواقع المتحرك المعلوم.
بين القطعي والظني
إن الإسلام باعتباره مصلحًا لكل زمان ومكان، مدعو الآن بلغة الإحصاءات، ولغة الأرقام، ولغة التأمل في عواقب أزمات الإنسان، إن الإسلام مدعو حضوره بقوة وبمنهجية.
العقل الإنساني المسلم مطالب أن يميز -وهو ينظر في الشريعة- في موضوعات المرأة والرجل والأسرة ومختلف القضايا ذات الصلة، أن يميز بين الثوابت اليقينية وقطعيات الدين وبين الظنيات وتنزيلات البشر للقطعيات على الواقع المتحرك، ذلك لأن عدم التمييز بين الأمرين قد يؤدي إلى خلل واضطراب في المفاهيم.
إن هناك قراءات معينة قد تمت عبر التاريخ لنصوص الدين المبثوثة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الكثير من هذه القراءات لم تخلُ من تأثيرات الواقع الذي كان يتحرك فيه المتفاعل مع النص القرآني.
نحن نحترم علماء أمتنا ومثقفيها ونقدّر فيهم جهودهم، لكن في المقابل لسنا متعبدين لربنا إلا من خلال ما ثبت من قطعيات النصوص وما ألزم الله ورسوله به الأمة الإسلامية، خير أمة أخرجت للناس.
إن التمييز بين القطعي والظني أمر ضروري وأساسي؛ هناك آيات قرآنية لها معنى واحد ولها حكم واحد، ولا سبيل إلى القول بغيره لأنه أمر مقطوع به، فعندما نقرأ: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم:21)، نفهم أن النص القرآني يبيّن أن طبيعة الأسرة الصالحة القرآنية التي يمكن أن تسدد في حركتها وفي إبداعاتها، إنما هي الأسرة التي تنبني على المودة والرحمة، وكلما نقصت هذه المودة والرحمة كلما نقص مفعول الأسرة القرآني والإيماني، إن هذه الحقيقة مؤكدة، لأن النص القرآني هنا نص قطعي لا يحتمل غير ذلك.
وفي مثل هذا السياق، لا يمكن أن يجتهد المجتهد أو أن يفكر المفكر، ولا سبيل للعاقل المنسجم مع إيمانه ومع اعترافه بالربوبية والألوهية ومنح الربوبية والعبودية وعطاءات الألوهية، إلا أن يسلم بهذه القطعيات واليقينيات، إذ هي بمثابة الحركة الموحدة للأمة باختلاف تاريخها وجغرافيتها عبر الزمان والمكان، أمة واحدة منذ أن نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العلق:1) إلى أن يقوم الناس لرب العالمين. الأمة الواحدة في هذا الاتجاه أمة موحدة على مستوى هذه القيمة، قيمة المودة والرحمة داخل الأسرة ما دمنا أوفياء للقرآن ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هناك أمور أخرى، وقضايا تحتاج إلى اجتهاد من قِبل العلماء والأمة.
والذي يؤسف له من جديد، أن هناك اتجاهًا معينًا عبر تاريخنا الطويل بعد العصر الأول الذهبي-عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة الكرام- هناك اتجاه إلى التنازل عن مكتسبات تحرير الإنسان، وجعل الإنسان مناط التكليف -ذكرًا كان أم أنثى- وكون الذكر والأنثى من خصائص النوع البشري، ولا علاقة لقيمة التفاضل على هذا الأساس. نأخذ على سبيل المثال ما ورد في فضل ذهاب المرأة إلى المسجد، تصلي مع الجماعة، هناك أحاديث صحيحة تبين اشتراك المرأة مع الرجال في صلاتين عظيمتين هما صلاة العشاء وصلاة الفجر في المسجد مع الجماعة رغم الظلمة، هناك أزيد من عشرين حديث صحيح في موضوع ترغيب المرأة في الذهاب إلى المسجد، ولكن بعض الناس اعتمدوا على حديث واحد حديث أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي الذي ورد فيه “وصلاتك في بيتك خير لك”، وضحوا بعشرين حديث صحيح. هنا يتساءل العقل كيف تمت التضحية بأحاديث كثيرة عدد منها في صحيح البخاري ومسلم، لصالح حديث واحد أو حديثين آخرين؟
إن هناك اتجاهًا للتضييق على الأنثى، إننا نضيق عليها ونكبلها بالقيود، ونخفيها عن العيون، حتى جاءت أفكار وافدة، وأغرت النساء بأنهن في عالم أرحم مع الفكر الوافد، وبذلك ضيعنا الكثير من نسائنا، لأننا ضيقنا عليهن، وأبقينا على هذا الفكر مع تطور العصر، ومع ثورات القرن العشرين المتنوعة التي لم نأخذها بعين الاعتبار، مع أنها أثرت علينا وأصبحنا مسكونين بالغرب كما قال أحد المفكرين “الإسلام يسكن المستقبل والغرب يسكننا”؛ يعني الإسلام حاجة المستقبل، وأصبح مطلبًا لدى العالمين بثقافته ومشروعه، بهداياته من الكتاب والسنة، لأن البشرية ضلت ضلالاً بعيدًا وعانت، وقاست مقاساة شديدة بفعل اختيارات مدمرة للأطراف كلها.
إن الإسلام يسكن المستقبل، وإن الغرب يسكننا، الكثير منا ما زال يحلم بثقافة الغرب التي أغرت المرأة، خصوصًا بأنها في عالم الحرية وفي عالم الثورة ضد التقاليد، وأصبحت ضد كل شيء حتى ضد نفسها، مما أضاع الكثير من إيجابيات الأنوثة وخصائص الذكورة.
وهنا لابد من العودة من جديد وبهدوء وعمق وبجرأة علينا أن نسائل الكثير من آراء فقهائنا ومفكرينا، لأنها آراء أقل ما يقال فيها أنها آراء ظني، إذا كان النص حديث الآحاد ظني الورود مع كونه قطعي الدلالة مما يسمح بالاجتهاد كما هو مقرر عند علمائنا، فإنه لا يحق لأي أحد أن يفرض على الناس التوجه إلى رأي واحد فقط من الآراء المتعددة.
ثم إذا فكرنا تفكيرًا على مستوى آخر، وهو أن النص القطعي في حد ذاته إذا نزلناه على الواقع لم يعد قطعيًّا، سيتبين لنا أن تنزيلك لهذا النص تطبيقك له، تطبيق حضارة معينة مجتمع معين له، لا يمكن أن يأخذ طابع القطعية لأنه عمل بشري، ممارسة بشرية، ذلك أن التدين ينتمي إلى الظنيات وهو إحدى مجالات إعمال الاجتهاد.
(*) كاتب وباحث مغربي.