انظر إلى الموجودات من حولك، إنها كأجزاء معمل منتظم، وأركان قصر معظم، وأنحاء مدينة عامرة، كلُّ جزءٍ ظهير للآخر، كلُّ جزء يمدّ يدَ العون للآخر، ويجِدّ في إسعاف حاجاته. والأجزاءُ جميعا تسعى يدا بيد بانتظام تام في خدمة ذوي الحياة، متكاتفةً متساندة متوجهة إلى غاية معينة في طاعة مدبّر حكيمٍ واحدٍ.
الكائنات جميعا تسعى بانتظام تام لخدمة ذوي الحياة، متكاتفةً متساندة في طاعة مدبّر حكيم واحد.
دستور التعاون
نعم، إن دستور “التعاون” الشامل الظاهر، ابتداءً من جري الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار وترادف الشتاء والصيف.. إلى إمدادِ النباتات للحيوانات الجائعة، وإلى سعي الحيوانات لمساعدة الإنسان الضعيف المكرّم، بل إلى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لإغاثة الأطفال النحاف، وإمداد الفواكه اللطيفة. بل إلى خِدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم.. كلُّ هذه الحركات الجارية وفق دستور “التعاون” تُري لمَن لم يفقد بصيرتَه كلّيا أنها تجري بقوةِ مربٍّ واحدٍ كريم مطلق الكرم، وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة.
فهذا التساند، وهذا التعاون، وهذا التجاوب، وهذا التعانق، وهذا التسخير، وهذا الانتظام، الجاري في هذا الكون، يشهدُ شهادة قاطعة، أن مدبّرا واحدا هو الذي يديرُه، ومربّيا أحدا يسوق الجميع في الكون. زد عليه، فإن الحكمةَ العامة الظاهرة بداهة في خلق الأشياء البديعة، وما تتضمنه من عناية تامة، وما في هذه العناية من رحمة واسعة، وما على هذه الرحمة من أرزاق منثورة تفي بحاجة كل ذي حياة وتعيّشه وفق حاجاته.. كل ذلك ختم عظيم للتوحيد له من الظهور والوضوح ما يفهمه كلُّ مَن لم تنطفئ جذوةُ عقله، ويراه كلُّ من لم يَعْمَ بصَرُه؟
إن الموجودات، من الذرات إلى الشموس، أفرادا وأنواعا صغيرة وكبيرة، قد أُلبست ثوبا رائعا نُسجَ من قماش “الحكمة”.
حلل شتى بديعة
نعم، إن حُلّة “الحكمة” التي يتراءى منها القصدُ والشعورُ والإرادةُ قد أُسبغت على الكون كله وجُلّلت كلّ جوانبه.. وخُلعَتْ على حُلة الحكمة هذه حلّةُ “العناية” التي تشفّ عن اللّطف والتزيين والتحسين والإحسان.. وعلى هذه الحلة القشيبة للعناية ألقيت حلّةُ “الرحمة” التي يتألق منها بريقُ التودد والتعرف والإنعام والإكرام وهي تغمر الكون كلَّه وتضمه.. وصُفَّت على هذه الحلّة المنوّرة للرحمة العامة “الأرزاق العامة”، ومُدّت موائدُها التي تعرِض الترحّمَ والإحسانَ والإكرامَ والرأفة الكاملة وحسن التربية ولطف الربوبية.
أقمشة عجيبة
نعم، إن هذه الموجودات؛ ابتداءً من الذرات إلى الشموس، سواء أكانت أفرادا أم أنواعا وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة، قد أُلبست ثوبا رائعا جدا، نُسجَ هذا الثوب من قماش “الحكمة” المزيّن بنقوش الثمرات والنتائج والغايات والفوائد والمصالح.. وكسيت بحلّةِ “العناية” المطرزة بأزاهير اللطف والإحسان قُدّت وفُصّلت حسب قامة كل شيء ومَقاس كل موجود.. وعلى حلّة العناية هذه قُلّدت شاراتُ “الرحمة” الساطعة ببريق التودد والتكرم والتحنن، والمتلألئة بلمعات الإنعام والإفضال.. وعلى تلك الشارات المرصّعة المنورة نُصبَت مائدةُ “الرزق” العام على امتداد سطح الأرض، بما يكفي جميع طوائف ذوي الحياة وبما يفي سدّ جميع حاجاتهم.
انظر إلى دستور “التعاون” في إمدادِ النباتات للحيوانات الجائعة، ووصول المواد الغذائية على جناح السرعة لإغاثة الأطفال.
وهكذا، فهذا العملُ يشير إشارة واضحة وضوحَ الشمس، إلى حكيمٍ مطلقِ الحكمة، وكريم مطلقِ الكرم، ورحيم مطلق الرحمة، ورزاق مطلق الرزق.أحقا أن كل شيء بحاجة إلى الرزق؟
أرزاق لا تنتهي
نعم، كما أننا نرى أن كل فرد بحاجة إلى رزق يديم حياتَه، كذلك جميعُ موجودات العالم -ولا سيما الأحياء- الكلّي منها والجزئي، أو الكلّ والجزء، لها في كيانها، وفي بقائها، وفي حياتها وإدامتها، مطاليبُ كثيرة، وضروريات عديدة، مادةً ومعنىً. ومع أنها مفتقرة ومحتاجة إلى أشياء كثيرة مما لا يمكن أن تصل يدُها إلى أدناها، بل لا تكفي قوّةُ ذلك الشيء وقدرتُه للحصول على أصغر مطالبه، نشاهد أن جميع تلك المطالب والأرزاق المادية والمعنوية تُسلَّم إلى يديه من حيث لا يحتسب، وبانتظام كامل وفي الوقت المناسب تسليما موافقا لحياته متّسما بالحكمة الكاملة.
ألَا يدل هذا الافتقار، وهذه الحاجة في المخلوقات، وهذا النمط من الإمداد والإعانة الغيبية، على ربٍّ حكيمٍ ذي جلال ومدبّر رحيم ذي جمال؟