على الخطوط الجوية الأردنية ركب طائرته المتجهة إلى عمان، كان طاقم الطائرة أردنيًّا عربيًّا، وغالبي الركاب كذلك…
من كثرة أسفاره لحضور المؤتمرات واللقاءات العلمية صار السفر جزءًا من حياته اليومية، فما قضاه على مقاعد الطائرة في سنواته الخمس الأخيرة كان أكثر مما قضاه على مقعد مكتبه، ولذلك اعتاد أن يغتنم هذه الأوقات إما في القراءة والاطلاع، أو التحضير للقاءات سيقوم بها في البلد المتجه إليه، أو المسامرة مع رفيق الرحلة من المرافقين له، أو التعرف على جار الرحلة وتجاذب أطراف الحديث معه أو النوم للاستراحةكان يعتقد أن الوقت ضيق والأعمال كثيرة لذلك كان يستغل كل دقيقة…
كانت هذه الرحلة مختلفة فقد كانت اللقاءات عادية لا تحتاج إلى كبير تحضير فبإمكانه الارتجال في معظمها…
كما كانت المسافة قصيرة لا تتجاوز أربع ساعات مقارنة بالرحلات التي كان يقضي فيها من عشر إلى ست عشرة ساعة…
كذلك أوقعه الحظ في جيران للمقاعد لا يمكنه أن يتجاذب معهم أطراف الحديث، فقد كان يجلس على مقعد الممر، وإلى جانبه امرأة ثلاثينية، غريبة الأطوار تضع حلقًا في إحدى حلقات أنفها، وتتكلم بعامية شامية كل ثلاث كلمات منها مخلوطة بأخرى إنجليزية، أما الشاب الآخر الذي كانت تتحدث إليه فلم يكد يتبين ملامحه.
من كثرة أسفاره لحضور المؤتمرات واللقاءات العلمية صار السفر جزءًا من حياته اليومية، فما قضاه على مقاعد الطائرة في سنواته الخمس الأخيرة.
تلا أدعية السفر ثم استوت الطائرة في كبد السماء وبدأ الركاب في فك أحزمة الأمان…
فكر صاحبنا ماذا عساه أن يفعل طوال هذه المدة؟
فقرر أن يبدأ بتلاوة أوراده وأذكاره اليومية، ريثما يقدم طاقم الضيافة الطعام، وبعد الطعام يمكنه أن يتابع قراءة بعض كتبه عبر هاتفه المحمول…
أخرج كتيب الأوراد الذي يداوم على حمله في جيبه ثم بدأ يردد ما فيه من أذكار وأدعية بخشوع…
لاحظ في البداية أن المرأة التي بجانبه تتكلم أحياناوتنظر بفضول إلى ما يقرأه أحيانا…
انفصل عن العالم الذي حوله محاولا التمعن في معاني ما يقرأه، فقد كانت الاضطرابات التي تموج بها الأمة تستدعي أن يخلص الإنسان في الدعاء وأن يناجي العبد ربه سائلا إياه أن يفرج عنا ما نحن فيه…
كانت حالة من الحالات الفريدة التي تلامس فيها هذه الأدعية شغاف قلبه، لقد كان يردد هذه الأدعية كل يوم، لكنها في هذه المرة لها وقع خاص على نفسه…
لم يقطع عليه استغراقه في هذه الحالة إلا سؤال المرأة التي بجانبه الإذن بالخروج..،قام من مجلسه واقفا ومفسحًا لها الطريق للعبور، ثم عاد إلى مقعده وإلى كتاب أوراده، لكنه لم يستطع أن يعاود حالة الاستغراق التي كان عليها، فهو ينتظر عودتها بين لحظة وأخرى، وعليه أن يفسح لها الطريق مجددا..،مر الوقت بطيئًا في انتظار عودتها، لعلها بعد أن تستقر في مكانها تعود إليه حالته الأولى، بعد فترة وجد من يربت على كتفه، نظر إليه فوجده أحد أفراد طاقم الضيافة بالطائرة، رحب به ثم قال بلهجة ودودة: هل يمكنني أن أجلس بجوارك؟
اندهش من هذا الطلب وهم أن يخبره أن لهذا المقعد صاحبة ستعود إليه، ولكن تذكر أنه أحد أفراد الطاقم فقال لنفسه: كيف سأخبره بما هو به أدرى؟أفسح الطريق لعبوره فلما استقر المضيف على مقعده بدأ في توجيه الأسئلة له:
سيدي، هل يمكن أن أتعرف عليك؟
على الرحب والسعة، أنا فلان الفلاني أعمل في كذا وكذا .
سيدي كنت قبل قليل تقرأ في كتيب صغير، هل يمكن أن أطلع عليه؟
تقصد هذا ، إنه كتاب أوراد وأذكار…
وهل يحتوي هذا الكتيب على صلاة تفجيرية؟
تفجيرية؟! ماذا تقصد؟
هل يمكن أن تطلعني على المواضع التي كنت تقرأ منها؟
أراه صاحبنا المواضع التي كان يقرأ منها حتى وقعت عينه على الصلاة التفريجية.
نظر إليها وسأل: ما هذا يا سيدي؟
– هذه الصلاة التفريجية.
وماذا يعني ذلك؟
يعني أنها دعاء يدعوه الإنسان لطلب الفرج من الله إذا ما ألمت به ضائقة أو اعتراه هم.
ضحك المضيف بصوت عال حتى فحص الأرض بقدميه، وحتى لفت أنظار المسافرين الآخرين إليه.
لكن صاحبنا انعقدت الدهشة على حاجبيه ولم يجد فيما ذكره للمضيف داعيا لمشاركته إياه الضحك.
استدعى المضيف بعضًا من زميلاته الأخريات وبدأ يشرح لهن معنى الصلاة التفريجية، فلم يستطعن أن يتمالكن أنفسهن أيضا من شدة الضحك.
توجه المضيف إلى صاحبنا وبدأ يفك له شفرة الموضوع.الواقع يا سيدي أن المرأة التي كانت تجلس بجوارك جاءتنا وهي في غاية الرعب والفزع، ثم قالت لنا أعتقد أن الرجل الذي يجلس بجواري ينوي أن يقوم بعمل ما في الطائرة.
فقلت لها : أنى عرفت ذلك يا سيدتي؟
فقالت: لقد رأيته يقرأ شيئا عنوانه: الصلاة التفجيرية
وواضح من عنوانها أنه ينوي أن يقوم بعمل ما على متن الطائرة.
لم يتمالك صاحبنا أيضا نفسه من شدة الضحك.
انصرف طاقم الضيافة وبقيت واحدة تسأله عن معنى الدعاء وكيف تقرأه ومتى تقرأه؟
فظل يشرح لها إلى أن جاءت المرأة ذات الحلق في أنفها وطلبت الإذن بالعبور ثم بدأت تعتذر بجميع اللغات،
أيم صو سوري، أنا مش عارفة كيف بدي أعتذر منك حقيقي بردو، وبين الفينة والأخرى تنظر إليه وتضع يديها على وجهها خجلا واستحياء.
عاد صاحبنا مرة أخرى إلى صلاته التفجيرية، أقصد إلى صلاته التفريجية لكن حالة الاستغراق لم تعد إليه مرة أخرى، استولى عليه هم جديد فوق هموم الأمة التي كان يفكر فيها، هم تعليم هذه الأمة قواعد الإملاء….