كان للتقدم العلمي الذي حققه المسلمون في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، فضل كبير في تطور علم الطب الذي كان محدودًا بالتقاليد التي فرضتها الظروف آنذاك.
إن التخدير لم يبدأ إلا مع اكتشاف مادة الأيتر عام 1842م، وإن المجتمع البشري مدين بإدخال طرق التخدير الحديثة إلى مجال الممارسة الطبية.
فلم يكن التشريح مباحًا، وظل علماء التشريح ووظائف الأعضاء جامدين في القالب الذي صبَّهما فيه أبقراط وجالينوس، إلا أن المسلمين استطاعوا إحداث ثورة جديدة في علم الطب الذي ساروا به في مسارات جديدة، منها الملاحظة السريرية والأكلينيكية الدقيقة للمرضى، ووصف العلامات المرضية للأمراض، والتدريس إلى جانب أسِرَّة المرضى.. ولم تتوقف مجهودات الأطباء المسلمين عند هذه الحدود، بل سعوا إلى ابتكار واستحداث أساليب جديدة في علاج المرضى، بما استحدثوا من الآلات الجراحية البسيطة والدقيقة.
ونتوقف عبر هذه السطور مع علم من العلوم الطبية برع فيه المسلمون، واستخدموه كوسيلة هامة لإتقان العمليات الجراحية وتخفيف آلام المرضى، ألا وهو علم التخدير الذي كان للأطباء المسلمين فيه فضل كبير، الأمر الذي يدلنا دلالة واضحة على مدى عمق وأصالة الطب في الدولة الإسلامية.
علم الجراحة عند المسلمين
وقبل أن نتعرف على مجهودات الأطباء المسلمين في علم التخدير، نتوقف قليلاً مع مجهوداتهم في علم الجراحة، الذي كان لهم فيه باع طويل، حيث حفظت لنا كتب التراث الطبي المئات من العمليات الجراحية الناجحة لأطباء مسلمين، كان من أبرزهم أبو بكر الرازي الذي ترك بصمات رائدة في “جراحات العصب والعضل والوتر والأربطة، وفي خياطة البطن والمراق والأمعاء والقرحة، وفي جراحات الدماغ والخراجات الحادثة داخل الأذن، وفي قواعد علاج القروح الباطنة، ونزف الدم الناتج عن فسخ العروق أو فتحها.. وإن له وصفًا ممتازًا لعملية خياطة البطن في الجراحة الواقعة بالبطن والمراق والأمعاء”، والطبيب الأندلسى أبو القاسم الزهراوي، الذي يعد رائدًا من رواد الجراحة في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، وكتابه التصريف وبخاصة “الجزء الثلاثون”، يعد مفخرة الجراحة والطب في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية؛ حيث تضمَّن سائر النواحي الجراحية المعروفة التي عرضها بأسلوب علمي فريد، بالإضافة إلى ما تضمَّنه الكتاب من صور وأشكال موضحة للجراحة والأدوات المستخدمة فيها. وقد قال عن هذا الكتاب العالم الفيزيولوجي الكبير هاللر: “كانت كتب أبو القاسم، المصدر الهام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر”.
كما اشتهر الزهراوي بإجراء العديد من العمليات الجراحية، فقد كان أول من أشار إلى ربط الشرايين والجراحات الدقيقة، كما أجرى عمليات صعبة في شق القصبة الهوائية، واستئصال اللوز بسنارة، كما كان أيضًا أول جرَّاح استخدم الخيط الذي يسل من مصران الحيوان، ما نسميه الآن “Catgut” في خياطة الأمعاء، حيث كان الجراحون المسلمون أول من استخدم الأوتار الجلدية في تخييط الجروح بعد العمليات الجراحية.
كان المسلمون يشيدون للطب مقامًا رفيعًا، ويعتبرون الجراحة قسمًا منفردًا ومحترمًا، ويبحثون عن وسائل جديدة لتسكين آلام المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية كان من أبرزها استخدام التخدير.
ريادة المسلمين في علم التخدير
لقد دفع الألمُ الإنسانَ من قديم الزمان، إلى البحث عن طرق في التركين والتسكين تساعده في العمليات الجراحية، وتسكين الأوجاع. وكانت البدايات مقتصرة على المستحضرات العشبية التي تعطى عن طريق الفم أو عن طريق الشرج، لتسكين الألم الناتج عن الأمراض، أو حتى في إطار معالجة الألم الناتج عن الجراحة.
وبالعودة لتاريخ الجراحة عند الأطباء العرب والمسلمين، نجد أنهم كانوا من أوائل الذين عملوا على تخفيف آلام المرضى؛ فقد استعملوا المهدِّئات والمركَّبات المزيلة للألم قبل إجراء العملية الجراحية، وقد ذكر الرازي في كتابه “الحاوي”، كيف يتم استعمال عصارة البنج في تسكين ألم العين، كما أدرك أن للمهدئات دورًا في تخفيف وطي الطنين على صاحبه وهو ما توصل إليه العلم في عصرنا، وذكر أنه إذا لم تنفع الأدوية التي تقطع وتلطف، فيعالج المريض بما يخدر الحس قليلاً كالبنج والأفيون.
ويصف ابن سينا في كتابه “القانون” في الجزء الثاني منه، تسكين الآلام بقوله: “جملة ما يسكن الوجع، إما مبدل المزاج وإما محلل المادة وإما مخدر، والتخدير يزيل الوجع؛ لأنه يذهب بحس العضو، وإنما يذهب بحسه لأحد سببين، إما بفرط التبريد، وإما بسمية فيه مضادة لقوة ذلك العضو”.
أما ابن البيطار، فقد تحدث في نهاية كتاب “الجامع لمفردات الأدوية والأغذية” عن الكثير من أدوية التسكين والتخدير، وبشكل خاص نبات البنج الذي أفاض في ذكره، بما يمتلكه من فوائد كبيرة في تسكين الأوجاع والآلام المختلفة، وطريقة استعماله في ذلك.
وكذلك الطبيب عمر بن يوسف بن عمر بن رسول الغساني التركماني المتوفى سنة 696هـ، صاحب كتاب “المعتمد في الأدوية المفردة”، والذى أفرد فصلاً فيه عن تسكين الأوجاع عن طريق نبات اليبروح، وذكر أنه يستعمل “لمن أراد أن يبطل حس عضو، إن احتاج إلى قطعه أو احتاج إلى الكى”.
والطبيب وعالم التخدير ابن القف الذي أفرد في كتابه “العمدة في الجراحة” فصلاً كاملاً للحديث عن تسكين الألم، وفرَّق بين التسكين الحقيقي وغير الحقيقي، وذكر أن التسكين الحقيقي هو علاج سبب العلة وإبراء المريض، والتسكين غير الحقيقي هو إعطاء المخدر لإحداث التسكين المؤقت أو قبل العملية الجراحية، لتمكين الجرائحى من العلاج”. وقد أورد ابن القف في كتابه، ثلاثة أسماء من النباتات التي تستعمل في التخدير؛ وهي الأفيون واللقاح والبنج.
استعمال التخدير الانشاقي
ولم تتوقف مجهودات الأطباء المسلمين في تخفيف آلام المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية بحدود استعمال المركبات المزيلة للألم والمهدئات، بل سعوا إلى اختراع ما عرف بـ”التخدير الإنشاقي” لممارسة العملية، وذلك باستعمال ما عُرف حينها بـ”الإسفنجة المرقدة” عن طريق استخدام نباتات القنب الهندي، وفقاعات الأفيون، والخشخاش الشويكران، والبنج، وست الحسن، حيث كان يتم حل هذه النباتات مع بعضها ليتشكل منها محلول وسائل مخدر، حيث يؤتى بقطعة إسفنجية تغمس في المحلول الناتج المذكور، لتتشرب السائل المخدر المعد مسبقًا، ويوضع على وجه المريض ليَغُطَّ في النوم، ويبدأ معه الجرَّاح بإنجاز عمله كشكل من أشكال التخدير الإنشاقي”، الذي يعتبر القاعدة الأساسية التي بني عليها علم التخدير في العصر الحديث.
الإفراط في التخدير
لم يكن استعمال المخدر أمرًا مشاعًا عند الأطباء المسلمين، بل نجد أنهم وضعوا له ضوابط، من أهمها أنه لا يستعمل إلا عند الضرورة القصوى. فنجد أن الجراح والطبيب ابن القف، يحذِّر من استعمال المخدر، وأن استعماله يجب أن يكون للضرورة القصوى فيقول: “إنه (أى المخدر) وإن كان يحصل به التسكين للوجع، يضعف القوة، ويجمد المادة الموجعة، ويثبتها بالعضو، ولذلك يجب على الجرَّاح، أن لا يقدم على استعماله إلا عند أمر عظيم”. وأيضًا ابن سينا يحث على معرفة تأثيره ومقداره بقوله: “ومع ذلك فيجب أن ننظر في تركيب المخدر وكيفيته، وتستعمل أسهله، وتستعمل مركبه مع ترياقاته إلا أن يكون الأمر عظيمًا جدًّا فتحتاج إلى تخدير قوي”.
اشتهر الزهراوي بإجراء العديد من العمليات الجراحية، فقد كان أول من أشار إلى ربط الشرايين والجراحات الدقيقة، كما أجرى عمليات صعبة في شق القصبة الهوائية.
التفاعلات الكيميائية في صنع التخدير
تقول كتب المدرسة الغربية في علم التخدير الحديث، إن التخدير لم يبدأ إلا مع اكتشاف مادة الأيتر عام 1842م، وإن المجتمع البشري مدين بإدخال طرق التخدير الحديثة إلى مجال الممارسة الطبية، إلى كل من مورتون ويلز وسيمبسون، ولكن الصحيح أن الأطباء والعلماء المسلمين، قد استخدموا التفاعلات الكيميائية في صنع التخدير، وتوصلوا إلى هذه المادة قبل عالم الغرب بقرون؛ فعلى سبيل المثال نجد أبا بكر الرازي، له الفضل في اكتشاف حمض الكبريت، وأسماه حينها “زيت أتراح”، ونجد العالم والفيلسوف الكندي استقطر الغول أو الكحول. ونعلم اليوم أن مستحضر الأيتر الذي كان له الريادة في اكتشاف التخدير عمليًّا في منتصف القرن التاسع عشر، ينتج عن تفاعل الغول بحمض الكبريت. ومن هنا يكون المسلمون من أوائل من توصلوا لوضع أسس تركيب مادة الأيتر المخدرة قبل علماء الغرب بعصور.
اعتراف بالفضل
وإذا كنا نذكر فضل المسلمين على هذا العلم الذي استفادت منه الحضارات الأخرى إفادة كبيرة في تطور علم التخدير الحديث الذي يعد عصب نجاح العمليات الجراحية، فها هي واحدة من أعلام الغرب تعترف بذلك الفضل؛ إنها الكاتبة والعالمة الألمانية الشهيرة “زيجريد هونكه”، حيث تقول في كتابها “فضل العرب على أوروبا”: “كذلك من الأشياء الأصيلة وذات فضل عظيم على الإنسانية، طريقة العرب في التخدير، وهم يختلفون فيها عن الهنود واليونان والرومان الذين كانوا يُسكِرون المريض، أما الطريقة العربية في تخدير المريض فهي ليست في العمل على تخديره لتخفيف الآلام فقط، بل تسهيلاً للجرَّاح للقيام بعمليته الجراحية دون أن يشعر المريض بألم، أعني استخدام التخدير الشامل لكل الجسم. أما طريقة إجرائه؛ فتغمس قطعة من الإسفنج في عصير مادة الحشيش ومستخرج زهرة البسلة ونبات السكران، ومن ثم تجفف قطعة الإسفنج في الشمس (وفي ترجمة أخرى، عصير الحشيش مع الأفيون والزؤان وست الحسن)، وعند استخدامها تطرى وتوضع في أنف المريض عند إجراء العملية، فيمتص المخاط السائل ولا يلبث أن يَغُطَّ في النوم ولا يشعر بآلام العملية الجراحية. واستعملوا التخدير في آلام المعدة لعملياتها وعمليات البواسير وعمليات المثانة والقسطرة، واستخراج الحصى من المثانة والحالب وعمليات الأمعاء”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، الدكتور عامر النجار، دار المعارف بمصر.
(2) تاريخ العلوم عند العرب، قدري حافظ طوقان، مكتبة مصر.
(3) التخدير في الحضارة العربية الإسلامية، إعداد الدكتور عبد الناصر كعدان، والدكتور أشرف العاصي، نسخة الكترونية.
(4) ومن البنج ما قتل، الدكتور نبيل سليم، مجلة الشاهد قبرص، العدد:79 (مارس 1992م).