إن النموذج المعرفي والحركي للخدمة وللأستاذ كولن شخصيًا يرى أن سيادة القانون واحترام الدستور وطلب الحقوق عبر الوسائل المعتبرة قانونيا داخليا وخارجيا هو الوسيلة الناجعة لتجنب الانزلاق في الفوضى والتخريب، وقد عرضه هذا الالتزام بالمبدأ إلى الانتقاد في بعض المسائل الحيوية المرتبطة بالعاطفة داخليا وخارجيا؛ ففي الملف السوري عبر عن هذا في حوار صحفي أجرته معه جريدة “الشرق الأوسط” في 24 مارس 2014 قائلا: “للأسف، سوريا كلها تجد نفسها في طريق مسدود.
وأظهرت التطوّرات أن الشهيد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي كان محقًّا في تقييمه للوضع، إذ كان يمثل نموذج الاعتدال السنّي والذي يمكن تلخيصه في مبدأ ” أسوأ حكومة أفضل من الفوضى واللاحكومة” وأن هناك خطر الانزلاق نحو حرب أهلية لدى محاولة إسقاط حكومة فاسدة عندما تكون الظروف غير مواتية وعند انعدام التوازن في القوى”، كما استطرد قائلا: “في هذه المرحلة ما ينبغي القيام به في المدى القريب هو إيجاد حلول سياسية عاجلة لإيقاف نزيف الدم، الأمر الذي سيكون بمثابة إغاثة ولو جزئية لملايين الأبرياء الذين يتضرّرون مما يحدث.
ومن ثم، على المجتمع الدولي بذل جهود دبلوماسية مكثفة لتحقيق هذا الغرض“، إذن فالرجل متمسك دائما بالحلول السلمية والجهود الدبلوماسية المكثفة لحل مثل هذه النزاعات، ولا يحبذ على الإطلاق الحلول العنيفة أو التي تؤدي إلى إزهاق أرواح الأبرياء.
في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الدبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم.
في ماوي مرمرة نبل القضية يقتضي الحفاظ على الأرواح
وقد أكد على هذا المعنى في قضية حساسة أخرى وهي قضية ماوي مرمرة التي تعرض فيها بسبب تصريح له لانتقاد بالغ، دافع عن رأيه فيها وفق هذا المبدأ في حوار أجرته معه البي البي سي في 27يناير2014م قائلا: “ولكنهم يُسنِدُون ادِّعاءاتهم إلى سفينة “ماوي مرمرة”، فعَقِبَ حوار أُجرِيَ معي سألوني: “ما تقييمكم للموضوع؟” قلت: “حبَّذا لواستُخدِمَت الدبلوماسيةُ إلى حدِّها الأخير ولم يُلجَأْ إلى العنف، لأن ذلك سيؤدِّي إلىمشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى“.
لا أدري كيف رَفعت الجريدة كلماتي إلى المانشيت، فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفتُ إلى جانب آخرين ضد إخوتنا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديت نفس الملاحظات. في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الدبلوماسيةحتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذ”.
الفوضى لا تبني وطنا
ويستدل على أن الفوضى لا تبني وطنًا وأضرارها أكثر من نفعها من شواهد التاريخ فيقول :”التاريخ يشهد على أن حركات التمرّد والثورات والانقلابات وأحداث العنف دائمًا ما تجرّ البلاد إلى الفوضى والمآسي، وتجعلها في نهاية المطاف تفقد كل مكتسباتها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكبّد الشعوب أضرارًا وخسائر لا يمكن تلافيها”.
الاحتكام إلى القانون نهج ثابت في حركة الخدمة
في رصدنا لخطاب الأستاذ في مرحلة الأزمة مع الحكومة وجدناه لم يخرج عن هذا الخط؛ ففي بدايات أزمة الخدمة مع الحكومة حينما قررت الأخيرة إغلاق مراكز التأهيل الجامعي -الذي كانت الخدمة تنشط في قطاع كبير منه- أشاد بموقف أبناء الخدمة في الاحتكام دائما إلى الوسائل القانونية المشروعة قائلا: “أفراد الخدمة باعتبارهم مواطنين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة وواجباتها، كان وما زال لهم مطالب من مؤسسات الدولة، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من المواطنين العاديين أو التربويين أو كل ناشط مجتمعي. وقد كانت هذه المطالب دائمًا تدور في إطار القوانين المرعية، وتُطلَب عبْر السبُل والطرق المشروعة. ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى أيّ وسيلة غير قانونية أو غير أخلاقية لتحقيق هذه المطالب”.
عندما نستخدم هذه الحقوق ينبغي أن نبدي سلوكا رفيعا يليق بشخصيتنا وأدبنا وواجبنا أن تكون تصرفاتنا وأقوالنا مناسبة لشخصيتنا وأدبنا مهما قست الظروف واشتدت الأحوال
عدم التراجع عن هذا النهج مهما بلغت التجاوزات
وبعد الانتهاكات التي مارستها الحكومة ضد الخدمة عقب أحداث محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016 دعا أبناء الخدمة إلى ضبط النفس وعدم الحيدة عن الصراط المستقيم قائلا: “يجب على النفوس المضحية (أبناء الخدمة) ألا يحيدوا عن الصراط المستقيم مهما بلغ حجم المظالم والانتهاكات التي يتعرضون لها.. عليهم أن يكونوا متوازنين في أفكارهم وعواطفهم دائما. عليهم أن يقيموا الميزان في ضبط سلوكهم ونمط كفاحهم، حينما يتعرضون لشتى أصناف الأذى من قبل أفراد امتلأت قلوبهم حسدا وطمعا وحقدا وكراهية، عليهم أن يقيموا الميزان كما أقاموه بين القوة العقلية الغضبية والشهوية. لأن الحنكة الحقيقية أن تحافظ على الميزان إزاء من اختلت عنده جميع الموازين”.
وأوصى بالعدل دائما حتى مع الخصوم الذين يسومونهم سوء العذاب انطلاقا من القول القرآني: ” وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى” حيث قال: “نزلت هذه الآية في مكة حينما كان الحبيب المصطفى r والصحب الكرام يتعرضون لمظالم شتى لا يمكن للعقل أو الخيال أن يتصورها. فكان الأمر للمؤمنين أن يقابلوا تلك المظالم بصدورهم الواسعة ويلوذوا بالصبر ولا يلجأوا إلى الرد بالمثل. ومن ثم ينبغي ألا يحيد المؤمنون عن مبدأ العدل ورعاية الحق بسبب سلوكيات البعض المجحفة. انحراف الآخرين عن العدل إلى الظلم لا يشرعن لجوءكم إلى الظلم أبدا. أنتم –أيتها القلوب النابضة بالإيمان-عليكم أن تكونوا عادلين دائما”.
لكنه في الوقت ذاته يوصي باتباع الأساليب القانونية، وطلب الحقوق عبر الوسائل المشروعة فيقول: “ولكن إذا شُنّت حملة تشويه ضدكم، وتحوّل الظلم وانتهاك الحقوق وضعا مستمرا، وباتوا يضخون أكاذيب وافتراءات عليكم كالزفت صباح مساء دون توقف.. عندئذ يمكنكم أن تلجأوا إلى التوضيح أو التصحيح أو التكذيب أو رفع قضايا تعويض حسبما يقتضيه الحال” ومع هذا فهو يوصي بحسن استخدام هذا الحق بما يليق يقول: “ولكن حتى عندما نستخدم هذه الحقوق ينبغي أن نبدي سلوكا رفيعا يليق بشخصيتنا وأدبنا. نعم، كل يعمل على شاكلته، وواجبنا أن تكون تصرفاتنا وأقوالنا مناسبة لشخصيتنا وأدبنا مهما قست الظروف واشتدت الأحوال”.
أبناء حركة الخدمة لن يتخلوا أبداً عن ولائهم للديمقراطية وسيادةِ القانون واحترام مبادئه، مهما بلغ حجم التنكيل بهم
إشادة بأبناء الخدمة للالتزام بالنهج والتأكيد على المواصلة
وفي بيان نشره موقع زمان عربي على لسان الأستاذ كولن بعنوان: “الأستاذ كولن ينشر بيانا حول إشاعات محاولة انقلاب جديدة في تركيا” حذر فيه من حياكة مؤامرة انقلابية جديدة، وإلصاقها بالخدمة للقضاء النهائي عليها في الداخل والخارج، ولإحداث موجة جديدة من الانتهاكات على نطاق أوسع، وأشاد في الوقت ذاته بتمسك أبناء الخدمة بالمعايير القانونية والأخلاقية، وعدم تجاوز هذه المعايير على الإطلاق قائلا:” لقد نجح أبناء الخدمة بصمودهم وثباتهم، والتزامهم الطرق القانونية في الدفاع عن حقوقهم، وعدم الحياد عن نهجهم السلمي الإيجابي في إفشال هذا المخطط، وإجهاض كل المحاولات الرامية إلى تشويه الخدمة، ووصمها بالإرهاب والتآمر”. ورغم تصاعد وتيرة الأزمة في حلقات هذا النزاع جدَّد تأكيده على النهج الإيجابي للخدمة في نهاية البيان قائلا: “إني أغتنم فرصة هذا البيان لأعلن مجددا للعالم بأسره أن أبناء حركة الخدمة لن يتخلوا أبداً عن ولائهم للديمقراطية وسيادةِ القانون واحترام مبادئه، مهما بلغ حجم التنكيل بهم والتعدي على حرياتهم وممتلكاتهم، ومهما بلغ حجم الانتهاكات والتمييز الفئوي ضدهم”
هذه العينة من الرصد تؤكد بما لا يدع مجالا للشك مدى التزام الأستاذ كولن وحركة الخدمة بالمعايير القانونية والأخلاقية في جميع الظروف والأحوال، وعدم الحيدة عن هذا النهج منذ بداية تأسيس الحركة وحتى يومنا هذا.
سنتابع معكم في الحلقة القادمة من هذه السلسلة توصيات الأستاذ كولن لأبناء الخدمة بتقوية الارتباط بالله عز وجل ومراجعة بعض المسائل فانتظرونا…
المصدر: موقع نسمات