ونظراً لكون شهر رمضان شـهر القرآن يجد الإنسان -حتى الذي ابتعد عن القرآن طوال السنة- نفسه الظامئة في الجو النوراني للقرآن… عند ذلك تنهمر عليه المعاني والأسرار القرآنية وألطافها، وتسقي كل وديان نفسه وروحه التي أوشكت أن تجفّ وتيبس، وتقلب عالم قلوبهم من أدناها إلى أقصاها إلى بسـاتين وحدائق زهور وورود، وتبعث فيهم فرحة الوجود، وتجعلهم يسمعون بالقرآن كل عالم الوجود ويحسون به، فيرتفعون بهذه الأحاسيس والأفكار ويسمون…
لا يوجد شـهر آخر مليء بالقرآن، يكون ليله بهذا النور، ونهاره بهذا الضياء المضمخ بعطر القرآن.
يحسون بأن الوجود كله والخلق كله يتنفس بالقرآن، فيرتجفون ويرتعشون ويكادون يغيبون عن أنفسهم. وفي أحيان كثيرة تنهمر دموعهم على خدودهم، ويشعرون بأن الستار يرتفع، وأنهم أصبحوا أقرب إلى مولاهم وخالقهم من كل قريب، فيحسون بلذة لا يستطيعون وصفها.
إن فهم المحتويات اللدنية للقرآن لا يتيسر إلا لمن يسمع في القرآن صوت الوجود كله، ويستمع في أعماقه إلى كل موسيقى روح الإنسان من خوف وأمل، ومن حزن وفرح، ومن غم وبهجة. والأرواح السامية المتجاوزة للزمن التي تستمع إلى القرآن وكأنه أنـزل عليها تجد فيه لذة فواكه الجنة وألوان وجمال حدائق الفردوس، وأنهار وشلالات سفوح الريّان ومناظرها، فتتوحد وتنساب معها.
وأصحاب القلوب الصافية الذيـن ينكبون على القرآن في الأيام الشفيفة لشـهر رمضان، وبمقاييس القلب المملوء توقيرا واحتراما، وينـزلون إلى أعماقه، يصلون كل لحظة إلى قيمة مختلفة من قيم الآخرة، ويتعرفون في كل آن على بعد آخر من أبعاد البقاء. المادة في فكر هؤلاء وفي حياتهم تكمل ما وراء المادة، ويكون المعنى هـو المحتوى الحقيقي للمادة وقيمتها، ويظهر كل شيء بقيمته المتخفية وراء الأسـتار.
ترى في أوجه هؤلاء -لكونهم متهيئين لاستقبال تجليات الأسماء الإلهية وصفاتها- قابلية خفية للحدس، وفهما متميزا وفريدا، ونضجا وكمالا متأتيا من امتزاجه بالقرآن والبكاء عند تلاوتـه، وارتباطه بالآخرة، وصفاءً وغنى وصدقا وإخلاصا ولطافة مزينة بالأذواق الذهبية للإيمان، وجاذبية وسحرا ومروءة وشهامة.
والإنسان في كل شهر رمضان جديد يرى من جديد نضارة القرآن ونبعه الآتي من وراء السماوات، وما يحويه من زينة المعارف الإلهية، وإشاراته المنبثة في أرجاء الكون وأرجاء المكان.
وحتى لو لم ينطق هؤلاء أو يتكلموا فإن هذه المعاني تبدو وتظهر وتطفح على السطح من سلوكهم وتصرفاتهم وأطوارهم ونظراتهم وتنعكس وتجد صداها فيما حواليهم.
لا يوجد شـهر آخر مليء بالقرآن، يكون ليله بهذا النور، ونهاره بهذا الضياء المضمخ بعطر القرآن. والإنسان في كل شهر رمضان جديد يرى من جديد نضارة القرآن ونبعه الآتي من وراء السماوات، وما يحويه من زينة المعارف الإلهية، وإشاراته المنبثة في أرجاء الكون وأرجاء المكان. فيفور عنده العشق الإلهي، ويرى ويسمع ويحدس آثاره التي تبرق في وجوه المؤمنين به. أجل!.. ففي شهر رمضان يبرق القرآن ويلتمع في هذه الوجوه المضيئة التي نحتها القدر، وفي هذه العيون التي تبرق بأعمق المعاني المتعلقة بالآخرة.
ونرى الجميع رجالا ونساءً… شـيوخا وشبابا… فقراء وأغنياء… عامة الناس وخاصتهم… علماء وأميين… نراهم وقد أخذوا -من ناحية طراز المعيشة والحياة- نصيبهم من هذا الجزء من الشريط الزمني فامتزجوا بشهر رمضان وتشربوه وتنفسوا به.
أجل!.. كل إنسان -حسب قابليته واستعداده- يصعد به إلى بعد آخر، ويتخلص من العديد من الرذائل التي تحط من قيمة الإنسان، ويتطهر من الأدناس والأوساخ المعنوية، ويزداد نـورا ويكون أهلا للجنة.
إن شهر رمضان بِيُمْنه وبركته غنيّ إلى درجة أن كل من يلتجئ إلى ظله يستفيد من ثروته وغناه، ويستطيع الوصول إلى سلطنة الآخرة شابا كان أم شيخا…
إن شهر رمضان بِيُمْنه وبركته غنيّ إلى درجة أن كل من يلتجئ إلى ظله يستفيد من ثروته وغناه، ويستطيع الوصول إلى سلطنة الآخرة شابا كان أم شيخا… مؤمنا قويا كان أم واهنا… ذكيا كان أم أحمق… عاقلا كان أم مجنونا… عارفا بما وراء الأستار أم جاهلا به… مؤهلا كان للعمل أم غير مؤهل… مُوَسْوِساً كان أم مقداما لا يبالي بشيء… مخلوقا لكي يكون حاكما وزعيما، أم مخلوقا تابعا ومحكوما… صامدا كان أمام جميع المصاعب، أم فَرقاً يسقط من أول هزة… متشائما يئنّ طوال حياته أم محتفظا بأمله حتى وهو في جهنم… طُفيْليا كان ومعتمدا على الآخرين طوال عمره أم صاحب إرادة لا يفلّها الحديد أمام جميع المصاعب والهموم… أم إنسانا خطط حياته للأكل والشرب والنوم والراحة والكسل فقط.
أجل!.. كل هذه الأصناف المختلفة بعضها عن بعض لا بد أن يستفيدوا من الجو النوراني لشهر رمضان وإن كانت الاسـتفادة بمقاييس ودرجات مختلفة، ويتغير شيء فيهم كل حسب حاله ويتميزوا، حتى يصلوا إلى حال وإلى مرتبة أخرى.
إن جمال شهر رمضان ونورانيته في العيون المتفتحة لهذا النور، وعظمة معنى الوجود التي يحتويها، تجد صداها السرّي ضمن أطياف معينة وبدرجات مختلفة على هذه المجموعات المختلفة، بروح وطعم وجو ومعنى خاص بهذا الشهر، وتسري في القلوب سريانا لا تستطيع أكثر الرؤوس عنادا أن تقاومه بل تستسلم له.
ليالي شهر رمضان التي تلف بأسرارها كل شيء تكون مؤنسة وحلوة، ونهاره الذي يحتضن مشاعر الإنسان وأفكاره بلطف وحلاوة يكون دافئا وحريري الملمس… تكون الصـدور المؤمنة فوارة بالمشـاعر العميقة… والأصوات الداعية إلى الله تنضح بالحنان… والمعاني التي تعبر عن كل هذا مؤثرة إلى درجة أن الذيـن يستطيعون فتح صدورهم وقلوبهم لشهر الغفران هذا يبتعدون -ولو بشكل مؤقت- عن القلق والهموم ويشعرون بسعادة الجنة.
المصدر: كتاب ترانيم روح وأشجان قلب للأستاذ فتح الله كولن/ دار النيل / مصر / القاهرة.