قال لي: سنذهب إلى المنصورة يوم الأحد لزيارة عالم جليل من علمائها، فقلت له: على الرحب والسعة؛ فزيارة العلماء مما يُتقرب به إلى الله عز وجل، وصحبة الأصدقاء مما يُدخِل السرور على النفس؛ فهل على ذلك من مزيد؟
المنصورة جميلة الجميلات
بدأت السيارة تخب بنا في الطريق الموصلة من القاهرة إلى المنصورة، ما بين دائري ممتد من التجمعات إلى قليوب، ثم طريق الإسكندرية الزراعي إلى بنها، ومنها إلى المنصورة.. تتهادى بنا المطبات، وتحفنا التكاتك من كل ناحية، حتى وصلنا إلى جميلة الجميلات (المنصورة).
هذه ثاني زيارة لي إلى المنصورة، عشقتها من أول نظرة، وعشقي لها قبل ذلك كان على طريقة بشار بن برد: (…والأذن تعشق قبل العين أحيانا)؛ فهي معدن الجمال، وأرومة الفن والثقافة، ومثال الشجاعة والصمود والثبات، وشاهد صدق على إذلال العِدا وقهر الغزاة. هكذا كان يتحدث عنها التاريخ، وهكذا يعبر عنها الواقع؛ فلم تزدني الزيارة الثانية إلا مزيدًا من التأمل في هذه المعاني وأنا أطالع من نافذة السيارة صفحة نيلها الرائع الرقراق.
الشيخ الرباني
وصلنا في تمام الثانية عشر ظهرًا، وحللنا ضيوفا كراما على عالمنا الجليل، استقبلنا بكل حفاوة وإكرام في جانب من مجلسه داخل مسجده الصغير، يحوطه بعض محبيه ومريديه وطلابه من مختلف الأعمار والجنسيات، تعلو وجهه أمارات الصلاح والبشاشة والوقار، لحيته البيضاء، وعمامته الخفيفة ذات الذؤابة القصيرة، وإشراق وجهه الزهري الشاحب، ونحول جسمه، وانتصاب جذعه، واشرئباب عنقه، كلها ملامح تشي بأننا قدمنا على شخصية ربانية. قال عنه صاحبي بعد أن انصرفنا من عنده: إن ملامحه تشير إلى أنه من سلالة السادة الأشراف.
سألَنَا: هل صليتم؟ فقلنا: لمَّا؟ فأشار إلى أحد مرافقيه أن يرشدنا إلى محل الطهارة والوضوء؛ أخذنا فرصة للتجول في أرجاء المكان.
روضة الصالحين، وسكينة طلاب العلم والمريدين
نعم نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن، وطريقنا طريق الله عز وجل، هذا ما لم أشك فيه لحظة
المكان رغم ضآلة حجمه، وتواضع إمكاناته، إلا أنه يصحبك إلى عالم آخر بعيدا عن الزمان والمكان المعاصرين؛ فقسم منه يعج بأرفف تكتظ بأسفار من الكتب القديمة، تتشكل من هذه الأرفف ممرات صغيرة ضيقة، لا تكاد تتسع لشخص. ومنظر الكتب فوق هذه الأرفف، يشعرك بأنها كثيرة الحل والترحال في مستقرها هذا. تمتطي الأياديَ من كل جنس ولون، وترسل هداياها من قرائح الألباب ونوادر الأفكار، للراغبين من الطلاب والزوار. لا يُسعفها هذا التنقل والترحال لِلَمِّ بعض شَعْثِها، أو الاهتمام بلون جلدها، وإزالة صفرة أوراقها.
وقسم آخر للوضوء والصلاة، يحتوي ركن منه على موقد وعدة للشاي، وبعض المشروبات التي لا يستغني عنها طلاب العلم في هذه الخلوات.
أما الركن الركين، والبرج الحصين، وروضة الصالحين، وسكينة طلاب العلم والمريدين، فهو ركن شيخنا الجليل. صغير المساحة لا يتسع لبضعة أشخاص، لكن الرحابة الروحية التي تحيط به، والفيوضات القلبية التي تعمره، لا تشعرك بالضيق المكاني الذي هو عليه.
انتهينا من الصلاة، واتخذنا مجالسنا في حضرة الشيخ، نتوسد وسائد ليس بينها وبين الأرض إلا قدر أنملة. عن يمين الشيخ كهل كفيف لا يبدو على عينيه أثر لذلك، تراه فتحسبه لجمال عينيه مبصرًا، وإلى جانبه شاب يرتدي طاقية خضراء، وفي إصبعه خاتم فضي كبير، ذو فص أزرق مربع، وملامحه تشير إلى أنه تركي من أتباع إحدى الطرق الصوفية، وآخرون غيرهم يبدو على أغلبهم أنهم مصريون.
نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن
شعرت مع وجود بعض الحضور أن الجلسة سيشوبها نوع من التوتر؛ فقد جئنا للسلام على الشيخ، وفي جعبتنا بعضٌ من أعداد “حراء” و”نسمات” تتحدث عن الخدمة. إلى جانب بعض من نفائس مؤلفات شيخنا الأستاذ محمد فتح الله كولن، كالنور الخالد، وتلال القلب الزمردية، ونحن نبني حضارتنا، ونحن نقيم صرح الروح.
إن أي كلام الآن عن الأستاذ والخدمة، قد يثير بعض الحضور، ويُذهب بعضًا من الأنس والسكينة والانشراح الذي يعمر الأجواء.
بعد أن استقر بنا المقام، وبعد انتهاء وصلة الترحيب والسلامات كان لزاما علينا أن نبدأ التعريف عن أنفسنا. خيَّم الصمت قليلا على المكان، ورنت الأبصار جميعها إلينا من الضيوف والزوار، تسارعتْ عندئذ ضربات قلبي، وشعرت بنوع خفيف من التوتر، كان رفيقي يجلس عن يميني، وكان من حسن الحظ أن بادر إلى الكلام، عندما هم بالكلام أشفقت عليه في هذا الموقف… ثم بدأ كلامه قائلا:
“أستاذي، نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن”
اشرأبت أعناق بعض الحضور، وزاغت أعين البعض الآخر. لكن لا أدري ما الذي حدث لي بعد هذه العبارة؟ كأني لم أسمع شيئًا بعدها من رفيقي وهو يتحدث. أخذت أردد هذه العبارة في نفسي: “نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن”، “نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن”. إن صديقي يُصرّح بهذا المعنى في كل محفل؛ لكني لم أشعر بوقعها على نفسي كما شعرت في تلك اللحظة. لقد أزاحت كل ما نفسي من سحب التوتر والانفعال. لقد كانت نبرات صوته، وثقته بنفسه وهو يرددها، تذكرني بقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألسنا على الحق؟
رددتها في نفسي، وقلت نعم نحن من تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن، وطريقنا طريق الله عز وجل، هذا ما لم أشك فيه لحظة؛ قابلت أستاذي كولن مرارًا، وفي كل مرة قابلته فيها كان يتأكد لي هذا المعنى، معنى محبته لله عز وجل، ومعنى عشقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى اقتفائه أثر القرآن والسنة في كل ما يقوم به من عمل، أو يصرح به من أفكار.
صحيح أنني لا أتجاسر على قول هذه العبارة بالقوة نفسها التي صدرت من رفيقي؛ لأن قوله حقيقة وقعت، وقولي شرف لا أجرؤ على ادعائه.
هذا التلميذ، فما ظنُّكم بالأستاذ؟
مرت الجلسة بسلام وكان لرفيقي أثر كبير في نفوس الحاضرين، فصوته الإذاعي الحنون، وعرضه الرائق لأفكار أستاذه، أثارت إعجاب المنصفين وحيدت الآخرين. وكأني بهم كانوا يهمسون: إذا كان هذا واحدًا من التلاميذ فما ظنكم بالباقين؟ بل ما ظنكم بأستاذه الذي رباه؟
فاللهم احشرنا في زمرة الصالحين