ثمة وجود جملة من التغيرات الحضارية نشاهدها يومًا بعد يوم، أثرت بعمق في العملية التربوية وفي الحياة المدرسية، تكمن خطورتها في كونها أفرزت انطباعًا مغايرًا حول مسألة القيم وعلاقتها بالتربية والتعليم، نلاحظ تجلياته من خلال تصرفات المتعلمين غير المألوفة، التي تعبر عن تشكل عقلية جديدة ومغايرة لمقومات الشخصية الإسلامية، حتى صرنا نلمس هذا التوجه الحثيث والمتمهل نحو الفصل بين القيم والمـعارف، يسري رويدًا رويدًا سواء بصورة ظاهرة أو مستترة داخل المؤسسات التربوية، كل هذا طبعًا نتيجة الاستلهام غير المضبوط، ومحاولة للاستقواء بالفكر الغربي، والتأثر بالحياة الغربية التي شهدت ولا تزال هذا الفصل بين القيم والمعرفة منذ فجر النهضة الأوروبية.
والأدهى من ذلك كون النظريات التربوية، وإن كنا مبدئيًّا لا ننكر إيجابياتها وفعالياتها في النهوض بالشأن التربوي والتعليمي في البلاد العربية والإسلامية، إذا تم تكييفها مع واقعنا التربوي وخصوصياتها. إلا أن جلها مستوحاة من الفكر الغربي القائم على هذه الرؤية المغايرة للتصور الإسلامي للمعرفة. واستنساخ تلك النظريات وتنزيلها على الواقع التربــوي العربي والإسلامي دون إبداء أي استعداد للتحفظ والنقد والمراجعة، غير بعيد أن يأتي بمشكلات تربوية أخطرها مسألة المساس بالهوية العربية والإسلامية التي تحددها منظومة قيمية مغايرة.
إن المعايير والمواصفات التي تحدد مفهوم المدرس الرسالي ينبغي أن تكون ماثلة قبل الهم بولوج المدرس منصب التدريس، بمعنى آخر ينبغي أن تكون لديه قابلية للعمل الرسالي الذي يساهم به في الفعل الحضاري لأمته ولشعبه
من هذا المنطلق ارتأينا أن نوجه الاهتمام إلى قضية ظلت معالجتها منسية أو متناسية من طرف عدد كثير من الأطر التربوية، علمًا أنها تعد من أقوى مفاصل العملية التربوية، ومن أهم مقوماتها التي تجعل لها معنى، ولجهودها طعمًا، إنها قضية حضور المدرّس الرسالي داخل المؤسسات التربوية.
وتسليط الضوء على هذه المسألة الحساسة ليعتبر من أثقل القضايا وأجدرها بالدراسة والاهتمام، ليقيننا بأن التربية والتعليم إذالم تكن لهما رسالة واضحة المعالم، تضبطها جملة معايير وقيم، فإن الجهود المبذولة بالرغم من كثافتها تبقى عديمة الجدوى وفارغة المحتوى.
بكلمة مختصرة المـدرس الرسالي؛ هو رجـل التعليم الذي يحـمل رسالة يعيش ويعمل لأجلها، ويقدم الغالي والنفيس من أجل تحقيقها، وبهذا الاعتبار فإن المدرس الرسالي هو ذلك الشخص الذي يقتنع أن مهمة التدريس لا تختصر في كونها حرفة عادية كباقي الحرف الأخرى، بل هي عملية معقدة ومركبة، تتطلب جهدًا ونفسًا عميقين، إذ العلاقة هنا ليست بين إنسان وشيء، بقدر ما هي علاقة بين إنسان وإنسان، بين معلم ومتعلم. وبناء عليه فهي مهمة تقوم أساسًا على جملة من القيم، وتضبطها معايير وضوابط منتظمة لا تتعارض فيما بينها، تتشكل من خلالها شخصية المتعلم، وتتحدد معالمها.
إن المعايير والمواصفات التي تحدد مفهوم المدرس الرسالي ينبغي أن تكون ماثلة قبل الهم بولوج المدرس منصب التدريس، بمعنى آخر ينبغي أن تكون لديه قابلية للعمل الرسالي الذي يساهم به في الفعل الحضاري لأمته ولشعبه، وبالتجربة والممارسة الميدانية تزداد تلك المعايير تشكلاً وبروزًا، ومتى غابت عن ذهن المدرس أو انصرفت عن تصــوره ، أو اعتبرها مسألة ثانوية، فقد الفعل التربوي مكانته، وانطفأت جذوته، وصار جهد المدرس كحاطب ليل ليس إلا.
تتكاثف مجموعة من الاعتبارات وتتداخل في تحديد مفهوم المدرس الرسالي الذي يعطي للعمل التربوي قيمة ومكانة مشرفة، يعتبر المستوى الأخلاقي الذي يحدد القدر الذي يُلزم به المدرس نفسه بالقيم والفضــائل التي يدعو إليها من أولى هـذه الاعتبارات. فالمدرس المخلق هو الذي تكون عنده قابلية لضخ الفضيلة في شخصية المتعلم، أما الذي لا يزن جهوده بميزان الأخلاق فلا وقع لجهوده بالرغم من كثافتها، على مستوى وجدان المتعلم التواق للفضائل، هذا إذا لم نقل أن جهوده ربما رامت الإفساد وليس الإصلاح. وارتباطًا بالمستوى الأخلاقي، يحضر الحس الدعوي الذي لا ينبغي أن يغيب عند كل مدرس، والذي يضفي قيمة مضافة تجعل جهده في عصمة عن المقاصد الدنيئة والرخيصة التي لا ترقى بمكانته كمدرس، ولا تروم إصلاح شخصـية المتـعلم باعتـبارها محل الخـطاب وموضوع التربية، ويلي ذلك كله المستوى العلــــمي والبيداغوجي الذي يحدد كفـاءة المدرس وأهليـته للمــنصب، وقدرته على العــــطاء في مجال تخصصه، وإشباع المتعلم بكل ما يمكن أن يحقق له تحصيلاً دراسيًّا كافيًا، ثم الجدية في الأداء المـهـني والوظيفي التي تجعل عمله في منأى عن التهور والاستهتار، وتجعلنا نحكم على المدرس أنه يحب منصبه ويقدر حجم المسؤولية، وتتوج هذه المعايـير كلها بمـدى حضور حب الابتـكار والتجديد الذي يعطي نفسًا جديدًا للعملية التربوية ويجعلها أكثر فاعلية وحيوية.
إن المتأمل داخل واقعنا التربوي ليلاحظ مظاهر لاختلالات متعددة، ويلمس أحيانًا بقوة هذا الفصل بين المعرفة والقيم، أو التربية والتعليم، فصار الجهد التربوي كل همه إمطار المتعلم بأصناف المعارف في مختلف المجالات. ولم تعد المعرفة وظيفية يستثمرها المتعلم في تغيير قناعة سلبية، أو اكتساب تمثل إيجابي، أو تصحيح سلوك منحرف، علمًا أنه جرى التأكيد حتى في ظل البيداغوجيات المعاصرة وعلى رأسها بيداغوجيا الكفايات على أهمية القيم، فالمتــعلم ليس مجرد وعاء للمعارف، بقدر ما هو محل لاكتساب مهارات وقدرات وكفايات يقوى بها في تكيفه مع المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، ويسترشد بها في الإشراف على مستقبله، وتحقيق آماله وطموحاته. ومن جملة هذه المهارات القيم التي تعتبر مسألة مركزية في الفعل التربوي، ونقصد بها المعايير التي تضبط فعل المتعلم وهدفه وإحساسه.
وبحيث يعتبر المدرس هو أهم محور في العملية التربوية، فإن مظاهر الاختلالات المتعددة التي نراها داخل مؤسساتنا والتي تتلخص في هذا التنحي أو التقليل من شأن القيم، ليجيب عن السؤال حول وجود المدرس الرسالي الذي نطمح أن يعيد المسار التربوي إلى سكته، علما أن هناك أطراف أخرى ساهمت هي الأخرى في هذه المشكلة.
الواقع أننا لم نجد أغلب المدرسين يستجيبون للخصائص والمعايير المذكورة التي تحدد الجانب الرسالي في عمله. الحقيقة المزرية أن المدرس اليوم لا يحضر عنده هذا الهم بقوة، ولا يدرك أن هناك تحولاً خطيرًا على مستوى سلوك المتعلم المراهق الذي بات يستحسن الإفرازات الحضارية الحديثة. وإن غياب هذه الرؤية الرسالية للعملية التربوية ليعتبر السبب الرئيسي في هذا التحول الذي ولد مشكلات تربوية كثيرة كظاهرة العنف المدرسي، وقضية الهدر المدرسي، وتراجع الحس التلمذي عند المتعلمين، وغيرها من المشكلات التي تعصف بالواقع التربوي، والتي نجتهد كثيرًا في البحث عن أسابها وهي معلومة المداخل والمخارج.
المشكلة الكبرى أننا استحسننا الحياة المدرسية المعاصرة، بالرغم مما فيها من مشكلات، وصار مألوفًا أن نلاحظ الانحراف، والطيش، والنزق في سلوكات المتعلمين حتى داخل الفصول الدراسية أحيانًا، دون أن يحرك هذا الواقع شيئًا في ضمير المدرس، ويهز كيانه، ويملئ قلبه حزنًا وأسفًا على ما آلت إليه الأوضاع. إذا وصلنا إلى هذا المستوى أعتقد أن المدرس الرسالي صار مجرد وهم وليس له حقيقة على أرض الواقع التربوي. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نرصد جملة من المظاهر التي يعرفها واقعنا التربوي والتي تجيب عن سؤالنا حول حضور المدرس، من بينها:
1. عدم احترام الوقت المخصص للعمل التربوي وتدبيره.
2. عدم الاطلاع على مستجدات التربية والتعليم وما تتطلبه كل حقبة وكل مرحلة يمر بها المتعلم.
3. عدم الاهتمام بالمتعلم ومشاركته همومه وأحاسيسه، واكتشاف تطلعاته.
4. البعد عن الواقع ومشكلاته في معالجة الدرس.
5. غياب الحيوية والجدية والتجديد، في العمل والفعل التربوي، وكلها عناصر بدونها لا يمكن أن يفرض المدرس وجوده واحترامه.
6. غياب عنصر التشويق والإثارة الذي من شأنه أن يشحن هم المتعلم بالتمدرس، ويقربه من الدرس أكثر.
7. عدم اقتناع بعض المدرسين بمركزية القيم في العملية التربوية.
عندما تغيب القيم الموجهة للفعل التربوي، تفقد العملية التربوية بريقها، وتتعطل حيويتها، وعوض أن تنتج ناشئة، رشيدة، ملتزمة، قادرة على العطاء الاجتماعي والتأثير الحضاري والتاريخي لهذه الأمة، تفرخ لجيل مدجَّن ثقافيًّا، وفارغ روحيًّا، ومنفصم حضاريًّا، تستحوذ عليه الميوعة، وتأخذ بتلابيبه إفرازات عولمة القيم وخطابها الذي لا ينفك يتمحور حول ثنائية الجنس والعنف، فيتأثر بها ويتخذها خيارًا حضاريًّا لمواكبة العصر والحياة، فلا يقوى بعد ذلك بسبب ضعف التحصين الثقافي أن ينفك من براثين هذه الإفرازات التي ربما قد تؤدي به في آخر المطاف إلى انتحار حضاري.
إن المسار الذي بدأت تسلكه العملية التربوية، والتي يعتبر فيها المدرس مسؤولاً أكبر، يفرض علينا أن نستيقظ لحجم التهديدات التي تحاصر متعلمينا، وأن نتفق على صياغة أسيجة حماية تعيد الاعتبار لقيمنا التي تضبط إنسانية الإنسان، وتجعله رشيدًا فاعلاً وليس مفعولاً به.
إننا في أمس الحاجة إلى مدرس ملتزم، ومخلق، يفهم أكثر المتعلم وما يحيطه به من تحديات، ويقتنع أن هذا الأخير لم يرتوِ بعد بالفضائل التي ترشد حياته، والمعرفة مجردة عن القيم غير كافية في تشكيل شخصية المتعلم، مهما حاولنا إمطاره بمختلف المعارف. فلا تعليم بدون تربية، ولا تربية بدون مدرس كفء مخلق يقدر حجم المسؤولية.
إننا في حاجة إلى جيل رشيد من الشباب، وإلى متعلم متزن لا يعرف الانفصام، القادر على التغيير والتأثير. لأن التغيير لا يحدث إلا بالشباب المؤمن بالمبادئ الذي يعيش لها ويقدم الغالي والنفيس لأجلها.
وإذا لم يفقه كافة المدرسين هذه الحقائق، فإن جهدهم لا يعدو أن يكون كمن يسكب الماء على الرمال. وسيظل المدرس الرسالي وهمًا كباقي الأوهام التي يقتات عليها المشهد الفكري العربي.