دعاني أحد أصدقائي الأعزاء إلى قلبي لرحلة بضعة أيام إلى شرق تركيا وتحديدا أرضروم وما حولها من بلاد، وكان ذلك إبان فصل الربيع؛ فكان لتلك الأيام وقع خاص في نفسي، جعلتني أشحذ قلمي، وأبث وريقاتي ما هاج في صدري وفكري من مشاعر وأفكار.
وهي على بساطتها وسذاجتها أحيانا تعكس بصدق ما اعتمل في نفس صاحبها وعقله، وتريكم تلك الأماكن بعينه وقلبه وفكره. ومن ثم فتقاسمها معكم في هذه الزاوية ليس إلا من باب التعرف على الشرق بعيون كاتبها وفكره.
إذا كان المتنبي قد ملأ الدنيا بفنه وأدبه وشغل الناس بما تضمنه ذلك الفن من عيون القصائد، ودرر البيان، وسوانح الحكمة، فإن الأستاذ قد ملأ الدنيا بمؤسسات صناعة الإنسان
ملأ الدنيا وشغل الناس
عندما أقرأ هذه العبارة ” ملأ الدنيا وشغل الناس” عن أبي الطيب المتنبي الشاعر العربي المعروف لا أدري لماذا يتبادر إلى ذهني الأستاذ محمد فتح الله كولن؟ فإذا كان المتنبي قد ملأ الدنيا بفنه وأدبه وشغل الناس بما تضمنه ذلك الفن من عيون القصائد، ودرر البيان، وسوانح الحكمة، فإن الأستاذ قد ملأ الدنيا بمؤسسات صناعة الإنسان، وخدمات تكوين النموذج، وأفنى ذخيرة عمره في تذليل وصول الإنسان إلى ربه وإزالة العوائق التي تحول بينه وبين هذا الوصول. وشغل الناس بمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من خلال خطبه ومواعظه التي كان يذوب فيها شوقا ويحترق صبابة في تلك المحبة وذلكم العشق.
واليوم وبعد أن أجرى الله على يديه خيرا عظيما ملأ به الدنيا وشُغِل به الناس تتوجه أنظار الناس إليه لتتعرف على طبيعة هذا المصلح وكنه هذا المجدد الذي نذر نفسه خالصة مخلصة لله عز وجل.
أكتب هذا الكلام وأنا على مقربة من المنبت الذي غرست فيه هذه الشجرة المباركة التي تغطي بظلالها الكريمة الوارفة الممتدة جزءا ليس يسيرا من عالمنا الذي نعيش فيه.
أرضروم
عندما يتطلع الإنسان إلى رؤية شيء ما أو يتشوق لمعرفة موضوع من الموضوعات تتفتح نوافذ حسه جميعها ويتهيأ شعوريا ووجدانيا لتلقي كل ما يروي فضوله ويشبع تطلعه.
سمعت عنها كثيرا، وارتبطت في ذهني بالأستاذ محمد فتح الله ارتباطا تلازميا ، فما إن يتلفظ أحد أمامي باسمها إلا وتتربع صورته في ذهني على النحو الذي كنا نراه عليه دائما “جالسا على كرسي وعظه يبكي ويبكي، أو متوسطا حلقة طلابه يسمع ويشرح”
إنها أرضروم يا سادة، دعاني إليها صديقي فلم أتردد في قبول دعوته وانتظرت بشغف الموعد الذي سأسافر فيه ، وفي النفس أمل وتطلع أن أعرج منها على قرية الأستاذ لعلي أهتدي إلى سر التربة التي نشأ وترعرع فيها. وبين هذا وذاك يتلجلج في صدري خواطر وتدور في رأسي أفكار: أيعقل هذا منك؟ أفي جذور الأستاذ ينبغي أن تبحث عن أم في ثماره ؟ وهل يذهل الناس عن الثمار اليانعة وينشغلون عن الاستمتاع ببهجتها ولذتها بالبحث في جذورها لمعرفة كيف تتكون اللذة، أو كيف تنبت الثمرة؟ أوليس الناس كالشجر أو كالنبات يسقى بماء واحد ويفضل بعضه على بعض درجات؟ أم أنه نوع من الترف العقلي الذي يجعل الإنسان يفلسف الواضحات ويعقد البسيطات؟!
طرحت كل هذه التساؤلات والتجاذبات التي كانت تصطرع في نفسي دفعة واحدة وقلت لها: لا تصغي لهذا النقاش غير المجدي، فها هي الفرصة قد واتتك على قدر لتتلامسي مع الجذور لعلك تحظين بسر من الأسرار يفتح الله عليك به فتحا مبينا.
تبعد قرية كوروجك عن مدينة أرضروم حوالي 25 كيلو متر تقريبا والطريق إليها قسمان قسم معبد، والآخر في طور التعبيد يخترق عددا من القرى الصغيرة.
في الطريق إلى كوروجك
همست في أذن صديقي بعد وصولنا إلى مطار أرضروم واستقبال أصحاب البلدة لنا هل يمكن أن نذهب إلى كورجك قرية الأستاذ؟ وهل هي قريبة من هنا؟ فقال لي مبشرا: بل ستقضي ليلتك هذه وضحاها كلها هناك، ففي القرية دار للضيافة ستبيت فيها الليلة، وتتجول صباحا في معالمها البسيطة، ونتقابل صباحا في أرضروم على الفطور؛ فبلغ بي السرور كل مبلغ، وبدأت أحفز قرون استشعار حواسي لتتهيأ لكل شيء تستقبله ولا تغفل منه شيئا.
تبعد قرية كوروجك عن مدينة أرضروم حوالي 25 كيلو متر تقريبا والطريق إليها قسمان قسم معبد، والآخر في طور التعبيد يخترق عددا من القرى الصغيرة.
في هذه الرحلة القصيرة الممتدة من أرضروم إلى قرية كوروجك والتي لا تتجاوز نصف الساعة شغل المرشد لنا (سائق السيارة) راديو “جيهان”؛ فزاد انفعالي أكثر بسماع صوت الأستاذ عبر الأثير في موعظته التي تسمى بالعربية” الوتر الحساس”؛ فإذا بالأستاذ يعزف على وتر قلبي الحساس ، وإذا بي أسمعه يردد بصوته الأجش وبعربية فصيحة قوله تعالى:” وأفوض أمري إلى الله” ، وقول الشاعر البوصيري في بردته:
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن اشتكت قدماه الضر من ورم
فهاجت الدموع في عيني، وأردت أن أخاطب الأستاذ وأقول له: ” يا أستاذ ها أنذا أزور قريتك، وأستمتع بجمالها في الوقت الذي حرمت أنت من هذه الزيارة. لك الحق فعلا أن تفوض أمرك إلى الله، وتمنيت حينئذ أن تتصل الخواطر والأفكار، وأن تتحول عيناي إلى عدسات متصلة بفكر الأستاذ وخاطره؛ ليتسنى له رؤية قريته والاستمتاع بذكرياته فيها.