لا شك أن للعلوم -كل العلوم- غايات ومقاصد تحقق الرؤى والفلسفات الكامنة وراءها والمؤطرة لها. والعلوم الإسلامية لا تشذ عن هذا الاطراد، بل هي أكثر العلوم -إطلاقًا- ارتباطًا بالغائية والمقصدية لارتباطها بالدين. وأعتقد أن غايات ومقاصد العلوم الإسلامية ثلاث كليات لا تكاد تخرج عنها: أن تحقق الهداية والصلة بالله تعالى، أن تُخرج الإنسان المستخلف الرسول، أن تبني مجتمعها وتسهم في إعمار الكون من حولها.. وهذا الذي فعله الإسلام في صدره الأول. لكن الناظر إلى حال هذه العلوم -راهنًا وتاريخيًّا- يجد أنها لا تكاد تحقق واحدة من تلك الغايات والمقاصد، فكيف بها مجتمعة! وهذا ما يطرح تساؤلاً حول مادة هذه العلوم نفسها، التي تحتاج إلى إعادة بناء أو استئناف من داخل الأصول المؤسسة لا من خارجها. فهناك أصول تؤسس المعرفة باعتبارها أساسات ومنطلقات ذات قدرة استيعابية كبيرة لخاصية الإطلاق فيها، وهذا لا يكون إلا للوحي، ثم هناك أصول أسستها المعرفة في صيرورتها التاريخية كان من المفترض أن تخضع لتجديدات وبناءات مستأنفة لخاصية النسبية فيها وهذا شأن كل إنجاز بشري. لكن للأسف -تاريخيًّا- كان الاشتغال بما أسسته المعرفة لا بما يؤسسها، ثم في منظومة الإسلام التوحيدية الموحدة لا يمكن لتلك الغايات أن تنفصل عن بعضها أو تستقل، وإلا اختل النظام كله وتعذر الإنجاز، وكنا -كما نحن الآن- أمام تحيزات ونزعات، لا أمام معرفة متحققة بشروط وجودها الغائية والاستخلافية والإنسانية. لذا فالحاجة داعية إذن إلى النظر المنهجي الكلّي إلى هذه العلوم من زاوية منطلقاتها وأصولها، ومن زاوية أهدافها وغاياتها، ما تحقق منها وكيف؟ وما لم يتحقق منها ولِمَ؟ وهذا الذي نروم تقريبه من خلال هذه المعالجة المنهجية السريعة.
إن التحديات التي تواجه الأمة كأمة، لا يمكن أن ترتفع إلا بالنهوض الجماعي للأمة بتكاليفها كأمة، وهذا أمر لا يسعف فيه الفقه الفردي والجزئي التفريعي على سعته وإحاطته.
الإشكال تاريخي
ذكر السيوطي في كتابه “تاريخ الخلفاء” عن الحسن البصري، أن أصول الانحراف في الأمة أصلان كبيران. أما الأول فهو طروء أو ظهور فرقة الخوارج وما تلاها وتبعها من فرق، والثاني فهو فساد نظام الحكم. ولا يخفى أن العلة الأولى هي إشارة إلى الانحراف الفكري التصوري سواء في جانبه العملي (استباحة دم المخالفين) أو في جانبه العقدي (تكفير مرتكب الكبيرة، الحاكمية لله). أما العلة الثانية فمتعلقة بفساد نظام الحكم وانحرافه عن المنهج الشوري وغلبة مظاهر الاستبداد والجور عليه. فهذه جبهة الذات، حيث نمت وترعرعت العلوم الشرعية قاطبة، وحيث عرفت في مجملها دورانًا محليًّا دون استئناف تجديدي يؤهلها للمواكبة. وإذا كان الأصل في هذه العلوم أن تكون تابعة للوحي الخالد تتجدد بتجديد النظر فيه والكشف عن جوانب من مكنونه، فإن الإشكال الكبير الذي وقعت في أسره إلى الآن، أنها استقرت على أسس تاريخية (مذهبية وفرقية وحزبية طائفية) أكثر منها شرعية، وأضحت متبوعة باعتبارها أصولاً ثابتة لا تتغير. فأخذت بالممارسة التاريخية من صفات الوحي ما لا يجوز إلا للوحي، وتصدرت مكانه، وأمسى الوحي تاليًا لها في الرتبة والاعتبار، شاهدًا لها لا عليها. ولهذا نحن، في الغالب الأعم، لا نُدَرِّس ولا نَدْرس في جامعاتنا من القرآن إلا علومًا تاريخية، ولا من السنن إلا فنونًا منهجية، ولا من الفقه إلا تاريخه، ولا من الفكر والعقيدة إلا تاريخهما، حتى إنه ليصح أن يُقال: إننا كائنات تاريخية تراثية ولسنا كائنات لها تاريخ وتراث تأخذ منه وتذر. أما فقه القرآن والسنة -نصًّا- لتحقيق الكسب الفكري والمعرفي الراهن والمواكب لقضايا الإنسان المعاصر بما يجسد فعلاً استيعاب رسالة الختم للزمان والمكان، فهذا الغائب الأكبر، ليس في مناهج ومقررات الدراسة فحسب، بل في اهتمامات رجال الفكر والعلم والإصلاح والتغيير كذلك.
لذا تحتاج هذه الجبهة إلى عمل يعيد للأصول والمصادر ترتيبها العادي، تجعل القداسة للوحي المهيمن والمصدق وتنزعها عن الفكر البشري.. تمارس بالقرآن وصحيح السنة على التراث الفكري الإسلامي ما مارسه القرآن نفسه على التراث الفكري البشري منذ بداية تنزله إلى نهايته.
في الحاجة إلى استئناف تجديدي شامل في العلوم الإسلامية وبناء أصول فكرية
لا يخفى أن العلوم الإسلامية نشأت ابتداءً من الوحي، وانبثقت عن الكتاب والسنة، ثم توسعت في التاريخ واستقرت على أوضاع معينة. فالأصل فيها أن بينها وحدة عضوية موضوعية لوحدة الأصل والمصدر. والناظر إلى واقع هذه العلوم التاريخي والراهن، يلحظ أن كلاًّ منها يكاد يدور في فلك خاص وأطر مرجعية ومنهجية خاصة، وأن فيها من التجريد والصورية أكثر مما فيها من الواقعية لتعطلها عن المواكبة العملية. أما عدم تفاعلها الإيجابي مع السنن الكونية والاجتماعية، فأدى من جهة إلى تعطل جبهة العلوم الكونية والمادية فكان العجز الشامل عن بناء النماذج الحضارية الذاتية، ومن جهة أخرى إلى تعطل جبهة العلوم الإنسانية فكان العجز عن بناء نموذج الإنسان المسلم السوي. وهما الآن (العلوم المادية والإنسانية) من أهم مداخل استضعاف الأمة واستلابها لنماذج الغرب ذات الشوكة والغلبة.
يضاف إلى هذا الإشكال إشكال آخر متفرع عنه، إشكال متعلق بتصنيف هذه العلوم وترتيبها المنهجي والمدرسي التعليمي.. كالتمييز بين العقيدة والشريعة والعادات والعبادات، ومدرسة الرأي ومدرسة الأثر، والعقل والنقل والحكمة والشريعة.. حيث تطور الأمر إلى صيغ معاصرة تعكس الصراع نفسه -كالأصالة والمعاصرة، والحداثة والتقليد، والعقلانية والشرعانية، البيانية والبرهانية- مما أسس من جهة، ثنائيات تقابلية لا يقوم أحدها إلا على نقيض الآخر، توجه ثقافة وفكر الأمة إلى المزيد من الصراع والاحتراب الداخلي، ويمنع -أو على الأقل يؤجل- بناء الفكر الموحد المستوعب لهذه الثنائيات في سياق تكاملي لا تقابلي. والقرآن كله -وهو نص- خطاب عقل وفكر وتدبر واعتبار وسنن آيات.. مما بإمكانه أن يؤسس معرفة برهانية وعقلانية سننية، كونية وإنسانية، بما في ذلك قضايا الإيمان والاعتقاد الصرف. ويحتاج في هذا السياق إلى تحرير الثنائيات من الصراع التاريخي والمعاصر، أي من التقابل إلى التكامل، وبنائها بناء معرفيًّا وفق منهج تتكامل فيه مصادر المعرفة -نصًّا وعقلاً وواقعًا- حيث بالإمكان استيعاب أطروحات الغرب وتجاوزها.
من جهة أخرى، أسس تصنيف العلوم المتقدم إلى التمييز بين العقيدة وأحكامها، وبين السلوك والمعاملات أو الشريعة وأحكامها، وبين الفكر وتأملاته ونظراته.. فبدت الأعمال والأفكار وكأنها مستقلة ولا علاقة لها بأطرها العقدية الموجهة، فنمت في الأمة وشاعت مظاهر الإرجاء والجبر والتعطيل والتواكل والسلبية.. ما تزال تشتغل في الأمة -فكرًا وسلوكًا- بصيغ وأشكال مختلفة إلى الآن. ويحتاج في هذا السياق كذلك إلى وصل الفكر والعمل -كل الفكر والعمل- بالمقومات العقدية والإيمانية لكونهما كيانان لا ينفصلان؛ فلم يرد الإيمان في القرآن إلا مقرونًا بعمل، وكل صفات “الذين آمنوا”، أعمال بالفكر والقلب والجوارح.. وإلى الاشتغال على تحرير العقيدة المؤطرة للفكر والعمل من كل دواخلها وشوائبها الكلامية والخرافية البدعية عبر التاريخ، بما يسمح لها أن تكون منطلقًا وقاعدة للرؤية الكلية للإسلام عن الإنسان والكون والحياة، وذلك ببنائها على القطع لا الظن، والمحكم لا المتشابه، كما يعرضها منهج الهيمنة والتصديق القرآني. وأن تُحسم بالبحث والدراسة كثير من الإشكالات العقدية، كتلك المتعلقة بمبدأ ختم النبوة وإكمال الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتراث المتعلق بعودة المهدي والمسيح، وغيرها من القضايا التي تحتاج إلى تمحيص وبحث.
إننا بحاجة عمومًا إلى إعادة بناء العلوم الإسلامية، لا من خلال تشكلاتها التاريخية، بل من خلال الأصل الذي انطلقت منه -كتابًا وسنة- بالشكل الذي تبرز فيه وحدتها وتكاملها…
الإشكال الثالث هنا، يتجلى في كون التحديات القائمة بوجه الأمة الآن، تحديات جماعية أكثر منها فردية وميدانية أكثر منها نظرية. وعلومنا كما هي بطابعها النوازلي الفردي والنظري التجريدي الغالب -مادة ومنهجًا- لا تسعف في مواجهة هذه التحديات وتقديم الإجابات اللازمة. وإذا كان الأصل في الأصلين (أصول الفقه وأصول الدين) وضع القواعد العملية للفقه والفكر، فإننا نجد أن الفقه قد نجح في أن تكون له أصول لولا أن اغتالها التجريد لطروء الدخيل المنطقي الصوري عليها. أما الفكر فلم ينجح علم الكلام في أن يضع له أصولاً لا عملية ولا نظرية، خاصة تلك التي تنبني على كليات مفاهيمية هي تكاليف جماعية للأمة. وفي اعتقادي أن التحديات التي تواجه الأمة كأمة، لا يمكن أن ترتفع إلا بالنهوض الجماعي للأمة بتكاليفها كأمة، وهذا أمر لا يسعف فيه الفقه الفردي والجزئي التفريعي على سعته وإحاطته. فلا بد من فقه للأمة يعمل على إخراجها وبعثها ينبني على أصول فكرية كلية مستوعبة، يكاد حضورها ينعدم في تراثنا الفكري. وبالرغم من النكبات والأزمات التي توالت في الأمة، وإن كان لهذا الأمر تبريره السياسي في احتكار السلطة وممارسات كثير من الخلفاء والسلاطين القمعية، التي تحول دون الخوض في الشأن الجماعي نقدًا وتوجيهًا، فإنه ليس بمانع من بنائه فكريًّا تأصيلاً وتقعيدًا.
وبالنظر في القرآن الكريم نجد أنه لم يرد حديث عن الأمة -في الغالب- إلا مقرونًا بتكليف جماعي، وتلك التكاليف هي ذاتها أصول تحتاج إلى مزيد بناء واستكشاف وتفعيل على الساحة الفكرية العلمية والعملية.. كأصول الخيرية والوسطية والاستخلاف والتعمير وحمل الأمانة والعالمية والشهادة وغيرها.. وهناك من الآيات والأحاديث ليس فقط ما يكفي لهذا البناء، بل ما يفرضه ويوجبه وما يدفع إليه ويحفز عليه، إذ لا سبيل للنهوض الجماعي إلا به.
إننا بحاجة عمومًا إلى إعادة بناء هذه العلوم، لا من خلال تشكلاتها التاريخية، بل من خلال الأصل الذي انطلقت منه -كتابًا وسنة- بالشكل الذي تبرز فيه وحدتها وتكاملها، وتنتفي كل أشكال التعارض والانفصال الزائف فيها، وتبرز تكاليفها وأحكامها الجماعية كما برزت الفردية.. وبالشكل الذي تعطي للخلق والحياة معنى وغاية، وتنفي عنها كل أشكال العبثية والعدمية التي تغذيها كثير من فلسفات الغرب المعاصرة الآن، والتي أمسى الإنسان فيها كائنًا طبيعيًّا بسيطًا تجري عليه القياسات والتجارب الطبيعية ذاتها.. وبالشكل الذي ينفي عنها مظاهر التحيز والنزوع الاكتفائي، ويسد مواطن الفراغ والخلل فيها، من خلال استحضار مصادر المعرفة في تكاملها.
قضايا معاصرة أمام الفكر الإسلامي
أعتقد أن من قضايا الفكر الإسلامي الراهنة والملحة بقوة أن يبدأ بشكل منتظم وفق مخطط مرحلي في دراسة إرثه التاريخي وحل مشكلاته التي ذكرنا منها والتي لم نذكر. وهذا العمل هو بحد ذاته تأهيل لهذا الفكر لمواجهة التحديات والقضايا الراهنة التي تطرحها ساحة التدافع، حيث يجد هذا الفكر نفسه محوطًا -وفي كل مرحلة بشكل لا إرادي- بأوضاع لم يُسهم هو في خلقها ولا له يد في تدبيرها، وعليه أن يتكيف ويتلاءم بالسرعة المناسبة.
في زمن العولمة، المشكلات الآن كونية إنسانية تشترك فيها كل الحضارات وإن لم تسهم في صناعتها، وكل قضايا الإنسان أصبحت تصاغ وتقرر كونيًّا، حتى تلك التي كان يعتبرها في بيته من أدق خصوصياته، ولا يمكن لحلول هذه المشكلات أن تكون جزئية، بل في مستوى كونيتها. وإن مقولات شائعة ورائجة الآن يراد منها صوغ فكر كوني نمطي، كحوار الحضارات والثقافات وحوار الأديان أو عكسها الذي ينذر بالصدام، تطرح على الفكر الإسلامي باعتباره ممثل حضارة وثقافة ودين؛ أن يكون له إسهام فيها، وهو الأقدر على ترشيدها وتصويبها للخير والنفع العام إن استطاع أن يعكس فعلاً هداية رسالة الختم التي يحملها في أفقها الكوني.
وإن مشكلات إنسانية اجتماعية كالفقر والبطالة والجريمة، وحقوق الإنسان والأمية، والتكافل والتفكك الأسري.. وكذلك مشكلات البيئة والحروب والصحة والمعاملات المختلفة.. كل ذلك مما ينبغي أن يواكب فكريًّا بالتأطير التصوري العقدي وفقهيًّا بالحكم التطبيقي العملي.
وهذا كله يستدعي -وهو من القضايا العاجلة الآن- اجتهادًا وتجديدًا غير منقطع في فكرنا المعاصر بما يحقق راهنيته. فهذه -وما في معناها- مضامين جديدة لعلم كلام جديد، واجتهاد فقهي جديد، لكن وفق منظور تصوري جديد ومنهاج عملي جديد.
في معالم منهاج قرآني بنائي تجديدي للفكر والعلوم
تجدر الإشارة أولاً، إلى أننا نتحدث عن منهاج كلي مستوعب يمكن أن تندرج تحته فروع منهجية بحسب الحقول العلمية.
وهذا المنهاج ليس آلة محايدة يقوم بوظائفه بمعزل عن أطره المرجعية، بل الأصل فيه أن يعكس رؤية تتجلى في جميع فروعه. فالفلسفة المادية الاستهلاكية الموجهة للغرب الآن والتي لا حضور فيها لعالم القيم والتراحم والأخلاق والمثل، تنعكس حتى على أدق العلوم التجريبية فتجعلها متحيزة ماديًّا لا إنسانيًّا.
هذا المنهاج العام لم يتبلور في ثقافتنا التاريخية ولا الراهنة، فقد كان ممارسة عملية في الصدر الإسلامي الأول، لكن بعده لم يعمل على استخراج معالمه أو التأسيس لمقوماته، لا في عصر التدوين ولا بعده. وكما انفصلت العلوم الإسلامية عن بعضها البعض، استقلت كذلك بمناهجها، فتعددت المناهج بدورها دون ناظم منهجي عام.
وهذه المناهج الجزئية ليس بإمكانها أن تستوعب القضايا الكلية المطروحة على ساحة التدافع الكوني. ولو أردنا شيئًا من التدقيق في فكرنا الحديث والمعاصر، لوجدنا أن المناهج السائدة منذ الحقبة الاستعمارية -حيث كان الشعور القوي بالأزمة- لم تخرج عن كونها مقاربات كما لدى البعثات الطلابية إلى الخارج “الطهطاوي والتونسي”، والتي لا تزيد عن كونها تعكس حالة الاندهاش، وتؤسس من حيث لا تشعر، لعقليات قابلة للاستلاب ظهرت بعدها بقليل.
ثم مقارنات كما هو السائد في كثير من الأدبيات الفكرية والحركية المعاصرة، التي لا هم لها إلا أن تثبت تفوق سبق الإسلام على هذا المنجز أو ذاك في عراك فكري أو سياسي، ثم محاولات توفيقية لا تعدو كونها تركيبًا غير موفق لعناصر بينها من الاختلاف أكثر مما بينها من الائتلاف، كل منها ينتمي إلى منظومة فكرية ومرجعية معينة.
وأعتقد أن من معالم هذا المنهاج الأساسية التي ينبغي أن تنال حظًا أوفر من الدراسة والبحث:
أ- أن ينطلق من مصادر المعرفة في تكاملها (الوحي والعقل والواقع)، حيث يتكامل عالم الغيب مع عالم الشهادة، وحيث تقرأ آيات الكون كما تقرأ آيات النص. فلا تطغى نزعة نصية على أخرى عقلية، أو هذه على نزعة واقعية أو العكس.
بـ- أن يستصحب قيم الهداية والرحمة واستشعار مسؤولية الاستخلاف والتعمير وحمل الأمانة والشهادة على الناس، مما يجعل المعرفة المنتجة أو العلوم المستخلصة، شعارًا للهداية والأمن والسلم والحوار والجدال بالتي هي أحسن، من أجل قيم عليا تنفي عنها الأغراض والأهواء الذاتية.
ذكر السيوطي في كتابه “تاريخ الخلفاء” عن الحسن البصري، أن أصول الانحراف في الأمة أصلان كبيران. أما الأول فهو طروء أو ظهور فرقة الخوارج وما تلاها وتبعها من فرق، والثاني فهو فساد نظام الحكم.
جـ- أن ينبني على خصائص التوحيدية والعالمية والوسطية والإنسانية والواقعية تنفي عنه أشكال الانغلاق والتحيز، والغلو والتشدد، والإفراط والتفريط، والصورية والتجريد وما إليها.
د- أن تكون له محددات كختم النبوة والهيمنة والتصديق والوحدة البنائية للنص، وما إليها مما يحول دون تسرب الخرافات والشوائب والزوائد التاريخية.
ولعل التنزيل الجزئي لمعالم هذا المنهج في مصادره وقيمه وخصائصه ومحدداته على مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، من شأنه أن يحدث تغيرات جذرية، وأن يجدد فيها أصولاً وفروعًا بما يستجيب لتحديات المرحلة الراهنة في نزوعها الكوني العالمي، وهو في جميع الأحوال دون كونية وعالمية الرسالة.
في الختام
أقول، إذا كانت القناعة أن الأزمة فكرية جوهرها منهجي، وأن هذا العمل يراد له أن يكون تصحيحيًّا جذريًّا لا ترقيعيًّا شكليًّا؛ فلا بد من أن تستنفر في أرجاء الأمة طوائف متعددة بحسب العلوم والتخصصات للبحث.. وأن تبدأ بمدارسة موسعة في المنهاج القرآني العام ثم المناهج الخاصة، وفق رؤية تكاملية مستوعبة يمكن أن تكون الإشارات والبيانات السالفة مسعفة ومساعدة على الاشتغال وتطوير البحث في هذا الاتجاه.. وأن تتخلل هذا العمل لقاءات منتظمة للمدارسة، خاصة في الوحدة البنائية وفي النواظم العملية والمنهجية حفاظًا على العقد من الانفراط، وتأكدًا من صحة المسار في تكامليته وكونيته وإنسانيته وقبل ذلك إسلاميته.. وأن يكون التركيز -في مقام أول- على مساحات الفراغ والتخلف التاريخي الذي تعاني منه الأمة، في جبهتي العلوم الكونية المادية والعلوم الإنسانية الاجتماعية باعتبارها تكليفًا من التكاليف الشرعية. فالنظرة الاختزالية (الأحكامية الفردية) للقرآن، هي التي جعلت النظر إليها كذلك، فلم تستأنف فيهما علوم ولم تتراكم فيها معارف بما يؤهل الأمة لموقع الشهادة والتدافع الحضاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال / المغرب.