حراء – 01 – السبت, 22 تشرين1/أكتوير 2005
بسم الله نستهل مسيرتنا… كان “الإنسان” ما قبل “حراء” عائمًا في خواء روحي رهيب، ذاهلاً عن نفسه، مجدبَ الجوانب، ممحل الوجود، خامد الجذوة، مقفر الروح، طافيًا على سطح الحياة غير معني بجوهرها؛ إنه لا يحيا إنما يعيش، حتى لكأن حياته خلو عن الحياة، فأسلمه ذلك كله إلى نوع من الشلل العقلي والروحي.
وفجأةً وفي لحظة زمنية هي أضوأُ لحظات الزمن، تحرك التاريخ سراعاً ليأتي “حراء” ويقف على بابه، منتظراً خروج الرجل المتحنث فيه، ليضع بين يديه روح الإنسان وعقله ويأتمنه عليهما. ولم يكن الرجل غير محمد صلّى الله عليه وسلم، ذاك الأمين المصطفى المختار الذي لم يجد الحقُ أطهرَ من قلبه ليتنـزل عليه ويقيم فيه. ومنذ تلك اللحظة الوضاءة في جبين البشرية، تجرد “حراء” من مكانيته وزمانيته، وغدا روحاً عظيماً محلقاً فوق الزمان والمكان، فخالط دم كل مسلم وسرى في وجدان كل مؤمن.
إنَّ الآيات التي استهلَّ القرآنُ نزولَهُ بها في غار “حراء” رسمت المنحى الفكري والروحي للمسلم كما يريده الله سبحانه وتعالى. فـ”اقرأ” هذا الأمر الإلهي يعطي دفعة قوية للكسل الذهني، ويستفزُّ العقل لكي يقرأ ويتدبر.
فالإنسان إذا شئنا أن نصفه بكلمة واحدة لقلنا إنه “مخلوق قارئ”. فالأمر الإلهي شامل لكل أنواع القراءات؛ فللقرآن قراءة، وللسنة قراءة، وللكون والطبيعة قراءة، وللتاريخ قراءة، وللنفس الإنسانية قراءة، ولكل ما يتحسسه الإنسان بحواسه الخمس قراءة، وإنْ لم يفعل أصيب بالعسر العقلي وتبلد إحساسه وشعوره.
فالكون والكائنات كتاب مفتوح سطره قلم القدرة، غير أنه مكتنف بالكثير من الغوامض والأسرار. وعلى الإنسان أن يستوحي قلم القدرة فيما يكتب، وأنْ يسعى لفتح أبواب تلك الأغوار السحيقة من المعميات. فإنشاء الأفكار وبناء صروح المعارف من مهمات هذا القلم الذي ربما يستطيع أن يهيمن في وقت ما على ثقافات العصر.
إنَّ كثيراً من الغشاوات التي تمنعنا من الرؤية العميقة النافذة تنتظر هذا القلم القدير لكي يزيحها عن أعيننا لنرى بشكل أوضح وأعمّ وأشمل. ولهذا أقسم ربُّ العزة بالقلم في أمكنة أخرى من القرآن، وعَلَّمَهُ الانسانَ. وكل قلم بيد الإنسان هو ظلٌّ من ظلال قلم القدرة، وقبس من أقباسه، ومن هنا تقدس القلم، وعَظُمَ مَن يمسك به، ومن هنا كذلك يجيء احترامنا وانحناؤنا للأقلام النـزيهة الملتزمة بالحق والحقيقة.
ولهذه الإيحاءات الروحية والفكرية التي يستثيرها اسم “حراء” في ذهن المسلم ووجدانه، ارتأينا أن يكون “حراء” اسماً لمجلتنا، نستوحي منه -كُتَّاباً وَقُراءً- المعاني العظيمة في رسم الطريق إلى المعرفة الإيمانية التي نريدها لمسلم هذا اليوم. وهذه المعرفة -كما نرى- لا تستوي على عرشها، ولا تؤتي ثمارها إلا إذا قامت على القرآن والكون والإنسان. فالإنسان المسلم كوني لا يكبح تطلعه، ومعرفي لا يقف عند حدّ، وقرآني الكينونة والوجود؛ فهو بين العقول صاحب العقل الأرقى وبين الفهوم صاحب الفهم الأوسع، وبين المدركات صاحب المدرك الأعم والأشمل. وهذا هو ما تسعى هذه المجلة أن تكرس نفسها له، وهو ما نحب من أصحاب الأقلام أن يعينونا عليه. وقد حاولنا -جهد المستطاع- في مستهل هذا العدد الأول من المجلة أنْ نختار من المقالات والأبحاث ما يتفق مع خطة المجلة وأهدافها المذكورة آنفاً، وقد شاء الله أن يكون عددنا الأول في شهر رمضان المبارك، شهر حراء شهر القرآن، فنسأل الله السداد والتوفيق.
والله تعالى من وراء القصد.