في ساعة متأخرة من الظهيرة، كانت شمس مارس الدافئة تنشر في المكان عبقًا جميلاً، وتداعب أشعتها الجلود والعيون والملابس، لكن الشتاء ما زال يفرض كلمته حتى الآن، فنسيم الهواء العليل البارد، وزخَّات المطر الخفيفة التي تحضر حينا وتختفي أحيانا تحضُّ المتجولين على الاحتشام، وتفرض عليهم ألا ينزعوا عنهم حُلة الشتاء مرة واحدة، حتى لا يحل عليهم البرد والزكام ضيفًا ثقيلاً.
في هذا الجو المتقلب كانت زهور التوليب تعلن تحديها بألوانها الزاهية وأشكالها البديعة، تهدي للناظرين بهجتها، وتتحف الزائرين بفتنتها، خمسة عشر يوما فقط في العام تمارس فيه هذه الزهورُ سحرَها الحلال، فيختلس الناس فرصة يوم ربيعي معتدل كهذا اليوم، ليسمعوا منها قصتها، ويشهدوا توقيع حضورها، منتزِعةً من المؤمنين منهم أسمى آيات الذكر والتسبيح لصنع الله البديع، ومُشكِّكة ألباب غيرهم في قدرة الطبيعة على هذا الخلق الباهر.
في هذا اليوم خرج عمر وفتية صغار ليتأملوا زهرة اللالا في موسمها، ارتقوا من أجل ذلك تبَّةً عالية؛ كانت حماسة الشباب ومشقة الصعود وفضول المشاهدة والاستمتاع، يدفع بالدماء الحارة أن تتدفق في وجوههم، ويتيح لمسحات خفيفة من التعرق أن تبدو على جلودهم، كان يخفف من تحدر قطراته على جباههم لفح النسيم البارد لتلك الجباه.
تذكر عمر أول طلوع له إلى هذه التبَّة، عندما كان في سن هؤلاء الفتية الذين يرافقونه، كان لقاء لم ينسه طول حياته، فقد كانت هذه أول زيارة له في حياته إلى إسطنبول، عاصمة الدنيا ومنبع السحر والجمال، كان يشعر وهو فوق هذه التبة أنه يستطيع أن يرى الدنيا كلها من هذه البقعة، بات ليلته كلها يحلم بهذا المنظر الذي حكاه له صديقه، لم يكن يتصور أن ما رآه سيكون أجمل مما تصوره أو حكاه صديقه، كان يظن أنه يبالغ كعادته، لكن مبالغات صديقه هذه المرة لم تستطع أن تحيط بالجمال الذي يطالعه وصفًا.
التفت إلى فتيته وطلب منهم أن يتخيروا مكانا يجلسون فيه يتيح لهم الاستمتاع بالمنظر الحلال، والابتعاد عما سواه أو ما يخالطه، انصاع الفتية كجنود ينفذون أمر قائدهم وقدوتهم، تخير أحدهم مكانا بين شجرتين عاليتين من أشجار الدلب، يقابلها حديقة مرصعة بأزهى ألوان التوليب البديع، فرشوا مفارشهم واتخذوا أماكنهم حول آبيهم وأخيهم الأكبر، وتفنن كل واحد منهم في إضفاء جو من البهجة والمتعة على الحضور، كان كل واحد منهم يشعر أنه صاحب بيت والباقي ضيوفه، وعليه إكرامهم.
إن البيوت التي تعدل في معناها ومحتواها دار ابن أبي الأرقم التي بدأت في عصر السعادة، واستمرت تنشد الغاية نفسها في فترات مختلفة، ينبغي لها أن تواظب في الوقت الحاضر أيضا على تنشئة وتخريج أناس مثقفين
جلس عمر يتأمل فيهم ووجهه ينطق بكل أمارات البشر والسرور، بدأ ينظر إلى وجوههم وجهًا وجهًا، شعر أن النور يعلو محياهم، لقد كانوا بالليل يصطفون لصلاة الليل، وبعد الفجر كانوا يتحلقون لتلاوة الأوراد والأذكار.
لم يوقظهم لقيام الليل ولا لصلاة الفجر، أيقظ بعضهم بعضًا في تواثب ونشاط، تذكر عندما كان يبيت الليل مفكرًا فيهم حاملاً همهم، غاضبا من بعضهم لتمرده وشقاوته. عندما وصل إلى هذه النقطة شعر بغصة في حلقه، وأراد أن يعض بنان الندم، كان يحدث نفسه قائلا: لو لم أصبر عليهم، ولو لم أجتهد في الدعاء لهم لكنت قررت طردهم من البيت حتى لا يُفسدوا أقرانهم، ولكن كل هذا العناد الذي كانوا عليه تحول إلى صلابة وقوة معنوية أخذتْ بيد أقرانهم وساعد بعضهم بعضا على عبور هذه المرحلة الخطيرة بسلام.
ترددت في نفسه كلمات أستاذه: “إن البيوت التي تعدل في معناها ومحتواها دار ابن أبي الأرقم التي بدأت في عصر السعادة، واستمرت تنشد الغاية نفسها في فترات مختلفة، ينبغي لها أن تواظب في الوقت الحاضر أيضا على تنشئة وتخريج أناس مثقفين، يرتفعون إلى عنان سماء الإنسانية، محلقين بأجنحة القلب والعقل. ولا بد أن تكون هذه الأماكن المباركة -بإذن الله تعالى-أماكن تجهيز وتزويد لمن نذروا أنفسهم للأمة والوطن في أيامنا الراهنة التي تبحر فيها أمتنا الإسلامية نحو انبعاث جديد…”(1).
(1) لمسات في إصلاح المجتمع، ص32 محمد فتح الله كولن الطبعة الأولى 2017 دار النيل للطباعة والنشر – القاهرة.