أقلام كتّاب هذا العدد من «حراء» تعلو وتتسامى لتلاحق -ولو من بعيد- أفقًا من آفاق محمد صلى الله عليه وسلم الموغلة في الارتفاع والسموّ. فرسالته صلى الله عليه وسلم سرمدية أبدية لا تغيب ولا تأفل؛ لأنها تنـزّلت من روح الحق، والحق دائميّ الوجود لا يطاله الموت أو العدم. وقد يكون من أشد أحداث التاريخ رعبًا وانتكاسًا أنْ يأتي مَن يتسافه على روح الحق دون شعور بأية مسؤولية أخلاقية تردعه عن هذا السفه.
فمحمد صلى الله عليه وسلم -كما جاء في المقال الرئيس- خفّاقُ قلوبنا ونبضُ أرواحنا ومفتاحُ أفكارنا وقلوبنا؛ منه نستنشق أنفاس الحياة، وننهل دوام البقاء، وأنداءَ الرأفة والرحمة.
فالأبحاث والمقالات التي يتضمنها هذا العدد يتناول كلٌّ منها جانبًا من جوانب الشخصية المحمدية ذات الأبعاد الكونية. فحياته أشبه ما تكون بالمحيط الهائل السعةِ الذي يشكل بارتفاع موجه عالمًا من القوى الدافعة والمحركة للإنسان نحو وحدة بشرية وعالمية تتعايش فيها الشعوب بنوع من التضامن والتكافل الاجتماعي والإنساني، وهذا هو جوهر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للبشرية.
في هذه الرسالة تذوب وتتلاشى جميع المتناقضات التاريخية في الطبيعة البشرية ليعمّ السلام، ويفشوَ الأمن والأمان، ويغدو الإنسان أخا الإنسان… وعلى البشرية -إذا هي لم تفقد حجاها- أن تُصغي لكلماته التي صاغها لها من قلبه الرؤوف الرحيم؛ إنّ في قلبه من سعة الرحمة ما يمكن أن يغذي روح الخليقة بأجمعها، وينير القلب البشري بنور الشوق إلى الخلود في كنف الله تعالى وفي جنّته.
ويُسعد «حراء» أن تحلي بعضًا من صفحاتها بما قاله بعض المنصفين من المستشرقين في حقه صلوات الله عليه، ويسعدها كذلك أنْ تنشر على الملأ وثيقة هامّة حفظها لنا التاريخ وهي «وثيقة المدينة»؛ حيث تعدُّ نموذجًا رائعًا من نماذج ترسيخ فكرة المواطنة الصالحة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان، إلى جانب «القصيدة الحُجْرية» التي تنمُّ عن عمق الإيمان ورسوخه في الشعب التركي وعظم عشقه للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أدل على ذلك العشق من حرصه على الاحتفاظ في متاحف إسطنبول ببعض آثاره صلى الله عليه وسلم ، وهي أمانات مقدسة يجلها ويعتز بها ويفديها بروحه؛ وصورها موزعة على صفحات هذا العدد من «حراء».
إن «حراء» اليوم بستان أخضر وربيع أزهر؛ فالناظر في بسيطها الممتدّ نحو أبعاد شاسعة في الفكر والمعرفة لا يسعه إلا الامتداد معها في إزجائها للإنسان في أحضان الأبدية على نحو سريعٍ صامتٍ ملهوجٍ، لأنه سيرى وجوده الأفضل في مرآتها الصقيلة التي تعكس جوهر الإنسان وحقيقته، وهل «حراء» إلاّ الإنسان في أصفى روحه، وأنقى وجدانه وأشرف قلمه؟!